عار في النقب ومجد في كل فلسطين
لم يكن ديفيد بن غوريون يتصور، وهو ينهب كل قطعة من أرضنا في فلسطين، أنه سيأتي يوم تجتمع فيه قيادات سياسية عربية بجوار قبره، وهو الذي أسس دولته الاستيطانية على أشلاء الآلاف من شعبنا، وعلى أراضي الملايين ممن هُجِّروا قسرا من أراضيهم المحتلة بأيدي عصاباته المجرمة.
جاء الاجتماع وسط تصاعد مريب في اللقاءات الرسمية بين أنظمة عربية خانعة والكيان المحتل، بدءا من لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد مع رئيس حكومة الاحتلال بينت في شرم الشيخ، ومرورا بلقاء النقب، وأخيرا لقاء ملك الأردن، عبدالله الثاني مع رئيس دولة الاحتلال، هيرتسوغ، في عمّان. كما عُقد لقاء رباعي في العقبة بين السيسي وملك الأردن وبن زايد ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وكلها أمور تشير إلى وجود تحرّكات على مستويات عدة، في القلب منها القضية الفلسطينية التي تمر بمرحلة مفصلية حرجة منذ انتكاسات الثورات العربية في التحرّر من الاستبداد. وعلى الرغم من خفوت الدعم للنضال الفلسطيني، وتصاعد حصار فكرة التحرّر الوطني، وتعمّد إنهاء القضية الفلسطينية، فإن الفلسطينيين، بأبسط الوسائل المتاحة، يبطلون ترتيبات الأعداء والخانعين على السواء.
منتصف يوليو/ تموز 2017، أغلق الاحتلال بوابات المسجد الأقصى لوضع بوابات إلكترونية، فرفضها المقدسيون، وأشعلوا هبّة باب الأسباط، لتنتهي الهبّة بوقف الإجراءات الصهيونية. والأهم أن الفلسطينيين وضعوا ما سمّيت صفقة القرن في ثلاجات الموتى، بعدما كانت قيادات عربية على وشك الانخراط فيها، وشهدنا السيسي يخاطب ترامب مبديا دعمه تحقيقها.
تعيد العمليات الفدائية تأكيد هشاشة قوات الاحتلال التي تزعم أن لديها أقوى جيش وأقوى استخبارات في المنطقة
كانت هبّة الأسباط واحدة من رحلات الفلسطينيين المبهرة في إذلال كل من يحاول الالتفاف على القضية وحقوق الشعب، وفي كل رحلة يثبتون أن في كل شبر من أرض فلسطين المحرّرَة أو المحتلة أبطال يحرسون بوابات القدس، ويدافعون عن شرف الأمة، فشهدنا هبّة باب الرحمة، وباب العمود، وشهدنا صمود أبناء حي الشيخ جرّاح، ثم شهدنا المقاومة وهي تأمر بوقف الاعتداءات، ويُستجاب لها بعدما طوّرت من أسلحتها وقدراتها. وأخيرا شهدنا، حتى كتابة هذه السطور، أربع عمليات فدائية خلال أسبوع، اختلطَ فيه سعي الخانعين والعدو لتصفية القضية، بمقاومةٍ شرسةٍ خرجت من الداخل المحتل هذه المرَّة.
وتعيد هذه العمليات تأكيد هشاشة قوات الاحتلال التي تزعم أن لديها أقوى جيش وأقوى استخبارات في المنطقة، الأمر الذي دعا رئيس وزراء المغتصِبين إلى إلقاء بيان صبيحة 31 مارس/ آذار يدعو فيه كل مغتصِب في فلسطين لديه رخصة حمل سلاح، ألا يدعه طوال الوقت، وأعلن أن كل جندي تلقّى تدريبا قتاليا أوّليا يحق له حمل سلاحه معه إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع، فضلا عن زيادة عدد قوات جيش الاحتلال وشرطته في الداخل المحتل، ليجعل الفلسطينيين أمام مجاميع مسلّحة بصورة رسمية، بدلا من التخفي والتجمّل وراء مفهوم "الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، وليُخرَس بينت الألسنة التي تشير إلى وجود فروق بين "الجنود والمستوطنين"، فنحن أمام أمّة مسلّحة مغتصبة أرضنا، لا أمام مواطنين أصحاب حق في أرض.
الغريب أن من يطالبون الفلسطينيين بإلقاء السلاح وقبول الأمر الواقع في المنطقة، ينقسمون إلى قسمين؛ قِسم قاوم وحارب الاحتلال حتى أخرجه من أرضه المحتلَّة، كما هو الحال في مصر، عندما انتزعت أرضها بكرامة وقوة في معركة أذلّت العدو عام 1973، ولا يحق لمن انتزع حريته بالسلاح أن يطالب غيره بإلقائه. وقِسم آخر لا يعرف من الصراعات والحروب سوى شراء الأسلحة لاسترضاء الأميركان، وكِلا الطرفين يقفان أمام تطلّعات التحرّر الفلسطيني بقوة وشراسة، كأنهم يملكون مصير المهجَّرين والمكلومين الذين فقدوا أرضهم وآباءهم وأبناءهم.
سننظر إلى ما سيثبِّتُه الفلسطينيون من الأوضاع على الأرض، وثقتنا الكبرى في صاحب الحق ومالك الأرض، إذ لا وزن للدخيل، ولا وزن للمستبدّ الخانع له
تتناسب هذه الوقفات العدوانية أمام الفلسطينيين مع طُرفة تُروى في الكيان المحتل، وينسبونها إلى وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جيمس بيكر (1989-1992) الذي قاد أول مفاوضات بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، أنه قرّر أن ينال قسطا من الراحة في إحدى مهامه الدبلوماسية إلى بريطانيا وروسيا ودولة الاحتلال من خلال البحث عن ملابس جديدة، فذهب إلى محل فخم للألبسة قرب ساحة بيكاديللي في لندن، وسأل الخياط الإنكليزي قائلا: مقابل مائة دولار ما الذي تستطيع أن تصنعه لي؟ فأجابه: ليس الكثير، ربما صدرية بدلة. وعندما ذهب إلى موسكو طرح السؤال نفسه على خياط روسي، فأجابه: ربما كنزة. وحين وصل إلى تل أبيب وهو لم ييأس بعد، طرح السؤال نفسه على خياط عجوز في محل صغير بشارع ديزنغوف، فأجابه: بمائة دولار أصنع لك صدرية وكنزة وسترة وربما سروالين، فأجابه الوزير بانذهال: كيف يمكن لكمية النقود نفسها أن توفر له ذلك كله في "إسرائيل"؟ فقال: الأمر بسيط جدا، فأنتم هنا لستم بذلك الحجم الذي تتصوّرونه.
يُصرِّ بيكر على نفي نِسبة هذه الطُرفة له، لكنها حقيقة كل الأطراف في الأرض المحتلة، أنهم ليسوا بالحجم الذي يتصوّرونه، وبالطبع هذا وضع حكام عرب هناك، فهم ليسوا بالحجم الذي يتصوّرونه بين شعوبهم المقهورة باستبدادهم، فكيف سيفرضون رؤيتهم على شعب الجبارين؟
ما جرى في النقب وقبله وما سيجري بعدهم لا يمثّل وزنا حقيقيا في المعادلات السياسية على الواقع الفلسطيني. صحيحٌ أن القضية تتأثر بما يُحاك ضدها، لكنه تأثير جِراحٍ لا تأثير إجهاز عليها، والفلسطينيون بارعون في تضميد جراحهم سريعا، وبارعون في المقاومة أيضا رغم الكُلوم. سننظر ما الذي سيستطيعه أعضاء لقاء النقب الذي سيتحول إلى منتدى سنوي، لـ"بناء هيكل إقليمي جديد قائم على التقدم، والتكنولوجيا، والتسامح الديني، والأمن، والتعاون الاستخباراتي"، كما وزير خارجية العدو، وسننظر إلى ما سيثبِّتُه الفلسطينيون من الأوضاع على الأرض، وثقتنا الكبرى في صاحب الحق ومالك الأرض، إذ لا وزن للدخيل، ولا وزن للمستبدّ الخانع له.