عام آخر من الغضب
يُسدل العام 2022 الستار على بدايات، أكثر منها نهايات، بمشاعر عالمية، تستوحي شعارات كتيّب ستيفان هيسيل (1917-2013)، مانيفستو "اغضبوا". والأوضاع في العالم بعد الحرب الأوكرانية أكثر تدهوراً وتعقيداً، مع ازدياد منسوب الكراهية والعنف والفقر والمديونية أكثر من ذي قبل، فتعود تلك المشاعر التي ألهمت ملايين المتظاهرين والمحتجّين في نحو 24 دولة شهدت "شبكات الغضب والأمل".
يعود الرجل التسعيني، بدروسه المفيدة، على وقع الأزمات وفي تمدّد احتجاجاتٍ لا تهادن السلطة، وتعلن سخطها، ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذا النوع من الاحتجاجات في توسّعية العام المقبل، حتى الأماكن المغلقة في شكل مماثل أو أقوى من الحركات التي جرت عامي 2010 - 2011، وعلى علاقة بالتغيير السياسي، وتحديدا في البلدان ذات الطبائع الأيديولوجية المختلفة من النوع الذي تثيره أزمة الشرعية السياسية الساخرة من الناس في كل مكان. فجأة، يبدو كلّ شيءٍ ممكناً في زمن مأزوم ومتغير على المستوى العالمي، فالعالم ليس بالضرورة محكوماً بالميكيافيلية السياسية والتطبيق البيروقراطي للسبل السخيفة للحياة.
قد نرى إلى تحركات شاملة عواصم عدة، تهدف إلى استكشاف معنى الحياة، بدلاً من الاستيلاء على الدولة، على نحو ما شاهدناه، من أيسلندا إلى تونس، ومن أثينا إلى مدريد، باريس، نيويورك، وفي أميركا اللاتينية. ويتضح أن الأزمة اليوم أوسع من أزمة الرأسمالية العالمية، بل تتجمّع المعلومات على أرض أيديولوجيات، وسياسات أخرى متحايلة على الواقع، ومضى عليها زمن، تسعى إلى تشكيل فعل جماعي آخر متجذّر في العنف، ومواجهة حماس الناس المدفوعين بأمل التغيير.
لم تعد ولاية الفقيه وحكومة إبراهيم رئيسي تعكسان صورة المرأة الإيرانية المتعلمة ولا الشباب الإيراني وأحلامهما
انغلاق الأنظمة في الصين وإيران وروسيا سيؤدّي إلى النتيجة ذاتها، أزمات وسقوط مقولة استقرار هذه الأنظمة، ونجاعتها المفترضة في مواجهة الأزمات. سيسمح عام 2023 برصد أكثر لما يحدُث، وبشرح أوسع لهذه الحركات الجديدة، وتحديداً حركة "الغاضبات" اللواتي يحتللن المدن والشوارع والفضاءات الرمزية المفتوحة، وحدود اليأس الشخصي عند الناس، بوجه سحرة الحرب والمال والسياسة والدين ومدى انتشار هذه الحركات بالعدوى، سيما دور المرأة في مواجهة الإذلال المستفز، نتيجة سخرية (وغطرسة) من هم في السلطة.
في الصين، انطلقت محدلة الأمن في القمع بدور لا يرحم، والغضب يختلط فيه السياسي والثقافي والصحي، والنظام يبرهن عن براعته في إدارة الأزمة، والسيطرة على التمرّد في المظاهرت التي شهدتها الصين ضد سياسة "صفر كوفيد"، والتي تعيق حركاتهم اليومية. اليافطات والأوراق البيضاء التي حملها طلاب الجامعات، وبعض المتظاهرين في بكين وشنغهاي، كتب عليها "الحرية تنتصر...". وتعدّت المطالبة برفع القيود الصحية إلى المطالبة باستقالة الرئيس شي جين بينغ، وهاجمت أيضا الحزب الشيوعي الصيني. وهذه أوضاع لم يسبق أن عاشها الصينيون، حتى في أثناء الثورة الثقافية، فهم يشعرون بالغضب والسخط والعزلة بسبب سياسة "صفر كوفيد" بعدما شاهدوا شعوب العالم تعيش حياتها بشكل طبيعي، وتملأ المطارات ومدرجات مونديال قطر، وفهموا أنّ استراتيجيات الدول الأخرى ضد "كوفيد" نجحت أكثر.
وفي ايران، لم تعد ولاية الفقيه وحكومة إبراهيم رئيسي تعكسان صورة المرأة الإيرانية المتعلمة ولا الشباب الإيراني وأحلامهما. أصبحت سيناريوهات المؤامرة وعبثية الحروب ضد أعداء وهميين غير نافعة. احتجاجات النساء الإيرانيات غيرّت فعلاً وجه الشارع في المدن الإيرانية. وفي طهران، لم تعُد أي فتاة تضع الحجاب. وفي جامعة طهران، غالبية النساء سافرات، وقد بدون في الشوارع يزاولن نشاطهن من دون خوف، بعد مرور أشهر على مقتل الشابة مهسا أميني. يخشى النظام الاصطدام بعزيمة الحركة الاحتجاجية، فيمارس أقصى التهويل والإرعاب بالإعدامات اليومية.
انتقلت إسرائيل الكارثية من دولة ديمقراطية إلى دولة دينية، واليسار الإسرائيلي على طريق الانقراض
ليس الوضع في روسيا أفضل منه في الصين وإيران، جرأة أمهات المجندين الروس وزوجاتهم لا تقاس. طالبن الرئيس بوتين، عبر وسائل التواصل الأجتماعي، بإجابات عن مصائرهم، وعن أسئلة الحرب في أوكرانيا. الوعي السياسي لدى فئة لا يستهان بها من الروس أصبح واضحا، حيث يطالب بعضٌ باجابات واضحة بشأن الأهداف الحقيقية لهذه الحرب التي يمكن أن تتحوّل إلى نار تلتهم الجميع، وتدفع بوتين إلى مواجهة كارثة اجتماعية واقتصادية. شهادات أهالي خيرسون، رعب وتعذيب، وبطولات، لمن عايشوا ثمانية أشهر من الرعب والمقاومة، تعني أن الأمور قد ترتدّ في صقيع الشتاء الأوكراني القاسي على الجيش الروسي (دخل مفاوضات مباشرة مع الجيش الأميركي في تركيا). على الضفة الأخرى، جرى تجاوز الضغوط المعيشية، والاضطرابات الداخلية، وحالات التصدّع، في الموقف الأوروبي المشترك، وتبقى مآسي المهاجرين عبر البحار، والضغوط الاقتصادية والنفطية المقبلة، وتهدّد باضطرابات واحتجاجات بدأت طلائعها في لندن، مع مشكلات مالية محتدمة، قد تساهم سياسات أميركا الحمائية في كسر أسواق الغرب وضعفها.
انتقلت إسرائيل الكارثية من دولة ديمقراطية إلى دولة دينية، واليسار الإسرائيلي على طريق الانقراض. والأمور، مع نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، إلى تصعيد يشكّل خطرا وجوديا، ما يدعو الإدارة الأميركية إلى الارتياب من وصول اليمين إلى السلطة، وبمنزلة "نهاية إسرائيل التي عرفناها في ظل قادة متشدّدين" (توماس فريدمان). الحكومة الجديدة المعلن عنها تعني ضم الضفة الغربية بحكم الأمر الواقع، وتاريخ من الخطاب الاستفزازي المناهض للعرب، وتآكل أي احتمالبة باقية لحل الدولتين، ما يثير رد فعل عنيف من الفلسطينيين، ومن المعارضة الليبرالية، والقلق بين حلفاء إسرائيل.
عام مقبل من العنف والغضب مع تردّي الأوضاع، بالترافق مع أثر البيئة المرعب والمناخ المدمّر لشروط التنمية المستدامة، إضافة إلى أولئك الفقراء في بنغلادش والسودان وإندونيسيا ودول نامية وفقيرة وأخرى تعاني أزمات مستمرّة في أفريقيا والشرق الأوسط الذين حوّلوا الخوف إلى غضب. عام آخر في السعي إلى توفير الحرية، الكرامة الإنسانية وسط المعاناة، موضوعاً متكرّراً (أفغانستان وتونس)، دفع ثمن فشل سلطات إذا ما حصل، على الرغم من التنوع الشاسع للسياقات الثقافية والجغرافية (تايوان بعد أوكرانيا تنتظر مخطّطات الجيش الصيني). هل يستطيع فاعلو التغيير الاجتماعي والسياسي ممارسة تأثيرهم، باستخدامات آليات رفع الظلم والقهر، صنع السلطة، وابتكار برامج جديدة لحياتهم، مع الحاجات المرتبطة بمعاناتهم، ومخاوفهم، وأحلامهم، وآمالهم.