عام ثقيل وكئيب
سألت جدّتي، رحمها الله، مرة، عن عُمْرِ أحد أقاربنا، فأجابتني من ذاكرتها أنه وُلد في عام الحصبة. وقالت "في ذلك العام اجتاحتنا الحصبة ومات أكثر أطفال القرية". وأضافت "عامها سرق لصٌ ديك الحبش الذي كنت أعلفه وأسمنه ليوم ميلاد عمّك". لم يفدني جواب الجدّة في شيء، لأنني لا أعلم متى كان عام الحصبة ذاك. كما كل الجدّات، كانت جدّتي تُؤرخ أحداث الميلاد والوفاة وغيرهما بقرائن، مثل جائحة الحصبة أو الثلجة الكبيرة، أو سرقة ديك الحبش، وليس في ذلك عيب، فقد درج العرب، كما جاء في كتاب "المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للمسعودي، منذ ما قبل الإسلام، على تسمية الأعوام بأسماء الأحداث الكبرى التي يشهدها كل عام، مثل عام الفيل الموافق 570-571 بعد الميلاد، نسبة لمحاولة أبرهة الأشرم الحبشي هدم الكعبة، وهو العام الذي شهد ولادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. واستمرت هذه العادة بعد مجيء الإسلام، فهناك عام الرمادة سنة 18 هـ للمجاعة الشديدة، في عهد عمر بن الخطاب. وسمي العام الذي بايع فيه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان بالخلافة بعام الجماعة وهي سنة 41 هـ. وسميت سنة 69 هـ بعام الطاعون الجارف، لكثرة من ماتوا بتفشّي وباء الطاعون. ومن أشهر أسماء الأعوام في التاريخ الإسلامي، عام الإذن، ومعه بدأ التقويم الهجري، عندما هاجر الرسول من مكّة إلى المدينة. وسُميت السنة العاشرة للهجرة سنة الوداع؛ أي سنة حجّة الوداع للرسول الكريم.
ويسمّي الصينيون في تقويمهم الأعوام بأسماء الحيوانات، سنة النّمر ثم الأرنب والتنين وهكذا. ويزعم الصينيون أن لكل مواليد سنة صفات من تلك الحيوانات، فمواليد سنة التنين مثلا يمتازون بالشجاعة، وسنة الخنزير بالحكمة، وسنة الديك بالغرور، والحصان بالقوة، والأفعى بالغدر، والغنم بالطاعة. وفي عالم الاقتصاد، يُوسم 1929 بعام الكساد الكبير، الأطول والأعظم في تاريخ العالم الحديث، حيث بدأ مع انهيار أسواق الأسهم في ذلك العام، ولم ينته حتى 1939.
يا ترى، ماذا نسمّي العام 2020، الذي لم تمر البشرية بمثيلٍ له منذ 1918، عام الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة الملايين. ولم نشهد، نحن الناجين من فيروس كوفيد 19، بمثل سوئه سوى تفشّي "إنفلونزا الخنازير" في عام 2009، راح ضحيتها ما يزيد عن نصف مليون شخص. هل نسمّيه عام "الإنفلونزا الصينية"، تماشياً مع عنصرية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أم نسميه، بحيادية، عام "جائحة كوفيد 19" مثل عامي الحصبة والجدري، وليس في ذلك تجنٍّ على أحد، فالقاتل الذي أودى بحياة نحو 1.8 مليون شخص، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، هو فيروس كوفيد 19، سواء بنسخته الأصلية أو المتحورة. أو هو عام "الفقد العظيم"، فليس من شخصٍ في هذا العالم إلا فقد عزيزاً بفتك الفيروس أو بتداعياته التي حرمت كثيرين من العلاج، بعد إرهاق المؤسسات الصحية والطواقم الطبية، واستنزاف طاقاتها في مطاردة فيروس يتقن فنون التحوّر والتنقل والتكيف.
بالنسبة لكاتب هذه السطور، هو عام الحَجْر، إذ يلفظ العام 2020 أنفاسه الأخيرة، بينما أقبع في الحجْر الفندقي الإجباري وحيداً، ممنوع عليّ الخروج من باب الغرفة إلا لأخذ وجباتٍ يتركها موظف الخدمات خارج الباب، ولا أعاود فتح الباب إلا لأخذ كيس وجبة الطعام التالية. سوف يصل العام 2021، وأنا محجور في غرفتي الفندقية، أتواصل مع العالم الخارجي بالهاتف وعبر منصّات التواصل الاجتماعي، التي لا أتصور كيف كان لنا أن نتعايش مع الحجْر اللااجتماعي بدونها.
يرحل عام 2020 غير مأسوفٍ عليه، وقد خطف منا الكثير من الأحبة ولحظات الفرح، ويحلّ عام جديد، قد نسمّيه عام الحياة والأمل، نرجو فيه السلامة والسلام للجميع.