عام سوداني جديد... انقسامات جديدة

28 ديسمبر 2024
+ الخط -

تبدو دولة السودان القديم في طريقها إلى تقسيمٍ هو الأسوأ في تاريخ البلد الذي فقد بعض أجزائه أكثر من مرّة. بل ربّما يمكن القول، بشيء من الحذر، إن كامل التراب السوداني لم يكن خاضعاً لسلطة مركزية في الخرطوم طوال عهد دولة ما بعد الاستقلال، إلّا لسنوات قليلة. فمنذ 1955 (قبل أقلّ من خمسة أشهر على استقلال السودان)، ظلّت السلطة المركزية في حالة حرب داخل أحد أقاليم البلاد، وتفقد من سيطرتها على جزء من الأرض لصالح القوات المتمردة. ورغم ذلك، لم يشهد تاريخ الحروب الأهلية الطويلة في السودان حالات تنازع سلطتَين إلّا في حدّ أدنى من الحكم الذاتي لمناطق صغيرة نسبياً مقارنةً بمساحة البلاد.
وكانت الضربة الأقسى للبلد الأفريقي والعربي (الأكبر سابقاً) هي انفصال جنوبه عنه بعد سنوات من الاقتتال الأهلي وملايين الضحايا واستنزاف البلاد وعسكرتها بتسخير مواردها وأهدافها للحرب، واستغلال الحرب باعتبارها واحداً من مبرّرات الانقلابات العسكرية. الانفصال الذي وقع في 2011 منهياً الحرب الأهلية الأطول في أفريقيا يبدو أنه لن يكون الأخير.
مع استمرار العمليات العسكرية، تظلّ الأراضي السودانية مقسّمة عملياً بين أربع جهات رئيسة، الجيش السوداني وتحالفاته، قوات الدعم السريع، وحركتي عبد الواحد نور وعبد العزيز الحلو. وتبدو هناك عملية تطبيع مع واقع الانقسام، خاصة من جانب الحكومة العسكرية التي تحاول الظهور بمظهر الدولة المتماسكة التي تؤدي دورها بشكل طبيعي، حتى إن وزارة الصناعة أعلنت الأسبوع الماضي قرب اكتفاء السودان من الدقيق المنتج محلّياً (!) في وقت يجمع العالم الغذاء والمال لنجدة الجوعى داخل البلد المتحارب.
وقد تصاعد الانقسام أخيراً بعد إعلان الجيش تغيير العملة الوطنية، بينما رفضت "الدعم السريع" تنفيذ التغيير في مناطق سيطرتها، ما يعني بداية وجود نظامَين ماليَّين، حتى لو بدرجة من الاختلاط في أحدهما أو في كليهما، مع مواصلة عمليات النهب الممنهجة من مناطق سيطرة المليشيا في الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض وغيرها. أمّا الجهات الأمنية، فستتعامل مع استخدام أوراق العملة باعتباره تهمةً جنائيةً، وإثبات عمالة للعدو. أيضاً، رفضت قوات الدعم السريع إعلان موعد امتحانات الشهادة السودانية. وهي امتحانات اعتُبرت عقوداً واحدة من أسس الدولة السودانية ورمزية سلطتها. فقيام الامتحانات الموحّدة في أيّ مكان هو أحد أدلّة سيادة السلطة المركزية في التصور الدولتي السوداني، لذلك تجنّد للامتحانات تسهيلات لوجستية وأمنية هائلة، وتنسّق تنسيقاً معقّداً على أعلى مستوى، قلّما يجود بمثله جهاز الدولة المُنهَك. وكان انكشاف الامتحانات السرّية يُعدّ حادثةَ أمن قومي، وقد أدّى تكرارها مرّات (أكبرها في 2003 عندما هاجمت المليشيا المتمرّدة التابعة لحاكم دارفور الحالي المتحالف مع الجيش القائد مني مناوي ولاية شمال دارفور) إلى تعزيز سردية المعارضة عن تفريط نظام الرئيس السابق عمر البشير في الأمن القومي. برفض المليشيا قيام الامتحانات الموحّدة في مناطق سيطرتها (رغم نزوح كثير من سكّانها إلى مناطق سيطرة الجيش أو خارج البلاد)، تفقد السلطة المركزية (بعد انتقالها من الخرطوم إلى بورتسودان) رمزاً سلطوياً مهمّاً.
هكذا، بعملة مختلفة وتقويم تعليمي مختلف، تقترب البلاد بحذر من إعلان التقسيم الرسمي بإعلان حكومةٍ في مناطق سيطرة "الدعم السريع". الحكومة، التي قوامها قوات حركات الكفاح المسلّح المُوقِّعة اتفاق جوبا للسلام (أغسطس/ آب 2020) مع بعض الشخصيات السياسية المدنية، تهدّد بانشقاق تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدّم)، بخروج اثنتين من أقدم الحركات المسلّحة المتحالفة مع الأحزاب المدنية بعد انقلاب 25 أكتوبر (2021)، مع حليف جديد (حركة العدل والمساواة - جناح سليمان صندل)، الذي انشقّ من حركته الأصلية المتحالفة مع الجيش بقيادة وزير المالية الحالي.
في هذه الخريطة المعقّدة من المليشيات المسلّحة والمعسكرات المتغيّرة، قد يشهد العام الجديد (يناير/ كانون الثاني 2025) إعلان سلطة موازية لسلطة الجيش في بورتسودان. وهو إعلان، رغم رفض تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية له، إلا أنها تبدو أعجز من منعه. واذ تنخرط التنسيقية في حوارات داخلية محاولةً تفادي الانقسام، وسعياً لتحقيق المستحيل بالوصول إلى صيغة توافق لإدارة الاختلاف حول أمر لا يكاد يقبل رأيَين، يتواصل تنسيق المجموعة المتّجهة إلى إعلان حكومة مع جهات دولية وإقليمية لحشد الدعم والتعاون تمهيداً للاعتراف الرسمي لاحقاً.
ومع وجود أصوات داخل التحالف المدني المتنازع تطالب بمحاسبة الراغبين في تشكيل حكومة، لا يبدو أن التحالف قادر على منع انقسامه، بالتوازي مع إعلان تقسيم السودان رسمياً بين سلطتَين... هكذا يبدو السودان موعوداً بمزيد من الانقسامات في 2025، بمزيد من المليشيات، وبمزيد من المعاناة للسودانيات والسودانيين.