عباس - غانتس .. نثر الملح في الجرح الفلسطيني

02 يناير 2022

محمود عباس وبيني غانتس

+ الخط -

هناك خطوات سياسية سيئة، وأخرى بالغة السوء تغرز خناجر جديدة في الجسد الفلسطيني؛ منها زيارة الرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس، منزل وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، الذي يتلذّذ بأمر قواته بتجريف البيوت الفلسطينية، وهو قائد العدوان على غزّة، فالزيارة ضربة موجعة للشعب الفلسطيني، مهما كانت الحجج والمسببات.

هل أقنع عبّاس نفسه حقاً بأن دخوله بيت مجرم الحرب سيفتح أفقاً أو ثغرة لبدء "طريق سياسي قبل الانفجار"، كما يَدّعي وزير الشؤون المدنية الفلسطينية حسين الشيخ؟ وهل يريد أن يقنعنا بهذه الخرافة السياسية التي جرّبها الفلسطينيون مرّات عديدة، ولا يمكن عبّاس حتى إقناع نفسه بها؟ فالزيارة كانت استجابة لضغوط أميركية تضع العبء على الفلسطينيين بإبقاء الوضع "هادئاً"، فيما تجنب نفسها الضغط على حليفتها إسرائيل بوقف جرائم الحرب ضد الفلسطينيين، وتتفرغ لتوسيع قاعدة التطبيع العربي الإسرائيلي.

زيارة عباس الوزير الإسرائيلي كانت استجابة لضغوط أميركية تضع العبء على الفلسطينيين بإبقاء الوضع "هادئاً"، فيما تجنب نفسها الضغط على حليفتها إسرائيل بوقف جرائم الحرب ضد الفلسطينيين

وفقاً لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، سبق الزيارة المشينة تنسيق فلسطيني مع الأردن ومصر والإدارة الأميركية، بغرض لقاء تُشترط به مظاهر الحميمية، بين الرئيس الفلسطيني مع أعداء لا يريدون أي نوع من "السلام"، مهما بلغت مكاسبهم، فالوضع القائم يسمح لإسرائيل بأخذ وقتها بحرية في التنكيل بالشعب الفلسطيني. ولم يكن "التنسيق" الذي تحدّثت عنه "هآرتس" سوى طلب أميركي تحت شعار "خطوات الثقة المتبادلة"، الجملة التي يستعملها المبعوث الأميركي، هادي عمرو، بكل وقاحة منذ توليه موقعه، وتعني عملياً أخذ السلطة الفلسطينية خطواتٍ عمليةً لتنفيس الاحتقان الفلسطيني ومنع الهبّات الفلسطينية المستمرّة من التحول إلى انتفاضةٍ جامحةٍ تعرقل هدوء الحكومة الإسرائيلية ومخططات الإدارة الأميركية.

في اللغة السياسية والعملية، ما تسمّى خطوات "تبادل الثقة" غطاء لابتزاز إسرائيلي مستمر، كما هو الحال منذ انطلاق محادثات "السلام" في مدريد عام 1991، تضع الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، كما تحدّدها تل أبيب، شرطاً لأي اتفاقية أو خطوات توافق عليها مع أي دولة عربية ومع الفلسطينيين الذين أصبحت هذه الشروط في حالتهم، وهذا غرضها أصلاً، وسيلة لإحكام السيطرة على الفلسطينيين، وللتهرّب من أي استحقاقات، من قبيل وقف الاحتلال والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، والأهم أنها تبدو ناتجة من تفاهم بين طرفين، وليست نتيجة مباشرة للاحتلال وترسانته العسكرية. والتنسيق الأمني ما هو إلا مأسسةٌ لمعادلة فرض الشروط الأمنية الإسرائيلية التي تتحكّم بالسلطة والشعب الفلسطينيين، فهي تستعمل ذريعةً للاستيلاء على الأراضي وبناء الجدار العنصري وطرد السكان من منازلهم واقتلاع الأشجار، ومن "لمّ شمل العائلات" وكل حق إنساني للإنسان الفلسطيني. إذاً، هو في جوهره مأسسةٌ لهذه العلاقة التبعية والمذلّة، ولا يمكن التحرّك من دون استيفاء شروط التنسيق الأمني. وعليه، خضع محمود عبّاس للابتزاز الأميركي، ليبرهن على أن السلطة تقوم بواجبها، وأنها "شريك حقيقي" في عملية سلام غير موجودة أصلاً.

ترى السلطة الفلسطينية أن الإدارة الحالية الأميركية مُنقِذة لها، وتريد أن تصدق الوهم الذي تبيعه لها

الغريب، وقد لا يكون غريباً، أن عبّاس، على ضعفه، كان أكثر تماسكاً خلال فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، حتى إنه رفض استقبال المبعوثين الأميركيين، بمن فيهم السفير (السابق) لدى الكيان الصهيوني، ديفيد فريدمان، بعد إعلان الاعتراف الأميركي بالقدس "عاصمة موحدة" للدولة الصهيونية، فترامب كان عدواً واضحاً، لكن السلطة الفلسطينية ترى الإدارة الحالية الأميركية مُنقِذة لها، وتريد أن تصدق الوهم الذي تبيعه لها، خصوصاً أنها اعتمدت في فترة الإدارة السابقة على نصائح وزير الخارجية السابق، جون كيري، الذي أصبح أهم عرّابي تعميق الاتفاقيات التطبيعية العربية الإسرائيلية، وأحد شروطها قبول الرواية الصهيونية ومشروعية المستوطنات.

ويبدو أن هناك أسباباً أخرى للقاء عباس مع غانتس، فوضع السلطة ضعيف، ليس فقط نتيجة استهتار الحكومة الإسرائيلية بها، بل وأيضاً خوفاً من حركة حماس، ومن تمدّد نفوذ المطرود من حركة فتح، محمد دحلان، في الحركة وخارجها، فقد استقبله وزير الخارجية الروسي، لافروف، في مكتبه بموسكو في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وأظهر مؤتمر عقده جناحه المسمّى "التيار الإصلاحي" في غزة اتساع التأييد له داخل "فتح"، نتيجة ضعف عبّاس، والمساعدات المالية والعينية التي يوزعها هو والإمارات في غزة، والأهم أن حركة حماس مستفيدة تماماً من توفير كل الإمكانات والتسهيلات له، فيما تعرقلها لحركة فتح والفصائل الفلسطينية الأخرى. وليس هذا سبباً رئيساً، لكن "فتح" مقسومة على نفسها، خصوصاً بعد إقصاء قادة مؤثرين وبارزين، خصوصاً من المقرّبين للقائد الفتحاوي الأسير، مروان البرغوثي، الذي يحظى باحترام وتأييد شعبي مقابل شبه انعدام الثقة بصدقية عبّاس والسلطة الفلسطينية، لكن الصراع على سلطةٍ لا سلطة حقيقة لها العامل الأبرز في تحرّكات السلطة ومنافسيها، بما في ذلك حركة حماس، فمن زيارة رئيس المكتب السياسي للحركة، إسماعيل هنية، الرباط بعد خطوات تطبيعية لم يعترض عليها حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، إلى محاولة إضعاف" فتح" من طريق التعاون مع دحلان، يتضح أن التمسك بالسلطة، بل والاستيلاء عليها أيضاً، هي اللعبة الأبرز، في تفريطٍ واضحٍ لمكتسبات المقاومة خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة في مايو/ أيار الماضي.

أن يزور عبّاس وزير الحرب الإسرائيلي، غانتس، في منزله، فهذه خطوة فاقت كل خطواته الماضية للاحتفاظ بالسلطة

ولكن أن يزور عبّاس وزير الحرب الإسرائيلي، غانتس، في منزله، فهذه خطوة فاقت كل خطواته الماضية للاحتفاظ بالسلطة، وإن جرت تحت ضغوط أميركية، وفي غضون تصعيد إسرائيلي في تدمير المنازل الفلسطينية وتوسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولكن وهم أن الزيارة ستضع حدّاً لتسارع مخطط بلع الأراض الفلسطينية إما خداع للنفس وإما محاولة فاشلة لما تراه السلطة من محاولات إسرائيلية، وربما عربية أيضاً، لإطاحتها وإيجاد بديل، فإذا كانت الرسالة من الزيارة أن لا بديل للسلطة، فإن في هذا استخفافاً بالقضية والشعب الفلسطينيين، أي إنها الوحيدة التي تستطيع السيطرة على الشعب، وتُمعن بنثر ملح الإهانة في الجرح الفلسطيني.

كان ممكناً اختصار المقال بالقول إن السلطة لا تمثل الشعب الفلسطيني، ولكن إلى حين ظهور قيادة جديدة تنقذ المشروع الوطني، فإن لأي خطوة يقوم بها عبّاس تداعياتها، والمهم تذكير السلطة بأن الانتفاضات الفلسطينية لا تبدأ بكبسة زر منها أو من غيرها، وأن بروز قيادة تحرّرية مسألة وقت ليس أكثر. ولكن إلى أن تتغير الظروف، في ظل تسارع التطبيع العربي الإسرائيلي، فإن مقاومة الشعب الفلسطيني، كما تدل الهبّات الفلسطينية المستمرّة، هي القوة المحرّكة على الأرض، رغماً عن أي قوة أخرى.

المحزن أن الزيارة جاءت قبل أسبوع من ذكرى انطلاقة حركة فتح والمقاومة المسلحة، ولكن لقيادة تهمّش عمداً الحركة حسابات أخرى. وفي النهاية، كما انطلقت فتح ضد الصمت والنكبة، وكما أثبتت هبّة نيسان أخيراً، إن قيادة جديدة لا تساوم قد أسمعت صوتها للعالم، وهو صوت لن يخفُت.

كاتبة وصحفية
كاتبة وصحفية
لميس أندوني
كاتبة وصحفية من الأردن
لميس أندوني