عباية... عباية
في أسواق حلب القديمة، كان فتيان يقفون على ناصية الطريق لمراقبة وصول دوريات الشرطة التي تميّزت بسرقة غلال الباعة الجوّالين أو تحطيم عرباتهم. كانت مهمتهم أن يُنبّهوا الباعة حينما يلمحون دوريات العسس هذه، فكان صراخهم يتعالى بالقول: "عباية... عباية". حينها، يقع الهرج والمرج، حيث يركض الباعة في مختلف الاتجاهات، ويختبئون عن أعين الغزاة وجيوبهم الفارغة التي يسعون لملئها بما لذّ وطاب من الغلال أو من نقود يقتلعونها من أفواه الفقراء لقاء عفوهم الفاسد عند المقدرة الأمنية.
مضت فترة طويلة على مغادرتي حلب، ولم تعد تُشنّف آذاني هذه العبارة ذات الدلالة القمعية غالباً، إلى أن قال وزير التربية الفرنسي الجديد، غابرييل عتال، إنه "قرّر" منع دخول الطالبات اللواتي يلبسن العباءة الى المدارس في العام الدراسي الجديد الذي يبدأ غدًا، وذلك تطبيقًا منه لمبدأ العلمانية ووجوب عدم إظهار الانتماء الديني لأي دين داخل "المدرسة الجمهورية"، معتبرًا أن هذا القرار يلتزم بقانون صدر سنة 2004، والذي قضى بمنع دخول المدرسة لكل الطلبة الذين تحمل ملابسهم أو مظهرهم الخارجي أية دلالة على الانتماء الديني من صليب إلى رداء الرأس اليهودي وصولاً إلى الحجاب الإسلامي. وقد أضاف أنه قد أصدر التعليمات اللازمة إلى مديري المؤسّسات التعليمية الحكومية لتقدير إن كان اللباس عباءة أم ثوباً طويلاً. وبالطبع، خرجت التساؤلات المشروعة لدى بعض المديرين بكيفية التقدير، فهل عليهم التزوّد بأدوات القياس الخاصّة بمصمّمي الأزياء؟
وفعلاً، فقد سجّلت أرقام العام المنصرم 150 حالة فقط في أكثر من 60 ألف مدرسة فرنسية عامة لطالباتٍ يلبسن "العباءة" التي يُقر معظم الخبراء بأنها نمط من ثياب الجنوب التقليدية، وهي لا تحمل مبدئياً نوازع دينية أو توجّهات متطرّفة، ففي قاموسه المفصّل لأسماء قطع "اللباس عند العرب"، والذي صدر سنة 1845، يُعرِّف المستشرق الهولندي رينهارت دوزي العباءة بأنها "اللباس الذي يُميّز البدو في كل الأزمان"، وأنه "بسيط ومتقشّف، ومنتشر في دول الجزيرة العربية وما حولها". وفي استطلاع رأي صحافي، تدّعي بعض الفتيات بأنهن يلبسن العباءة تمشياً مع "الموضة" التي تنشرها مؤثِّرات في وسائل التواصل، أو أنه لإخفاء أشكال أجسادهن، فهن يعبرن في سن تتكوّن فيه غالباً لدى بعضهن تساؤلاتٌ حول تطوّر الجسد ونموّه. وأخيراً، يمكن لبعضهن القول إنه جزء من تقشّفٍ مرتبط بقدرة العباءة على إخفاء لباسٍ قديمٍ تحتها في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تمرّ بها البلاد، وخصوصاً الطبقات الفقيرة فيها.
على المدرسة العامة أن تستقبل كل التلاميذ من دون أي تمييز أو تنميط
ومن دون الخوض في دينية هذا الرداء القماشي أم عدم دينيته، والذي يمكن أن يكون ملوّناً ومُقتنياً من كبرى محلات الألبسة، يتساءل بعضهم عن أهمية هذا "التفصيل"، الموجّه إلى المسلّمات تحديداً، في مرحلة يعيش فيها قطاع التعليم أقسى الظروف العلمية والعملية. فهناك نقص كبير في عدد الأساتذة يُقدّر بأكثر من ثلاثة آلاف معلمة ومعلم. وحيث تضطرّ مدارس إلى إغلاق الصفوف لعدم توفر الكادر التعليمي اللازم لتشغيلها. كما أن هناك مدارس تفتقر إلى وسائل التعليم ويعود بناؤها إلى سبعينيات القرن الماضي، ما يعني أن إعادة تأهيلها يجب أن تكون أولوية. كما يُشير آخرون إلى اكتظاظ الصفوف بالطلبة، ما ينعكس سلباً على مخرجات العملية التعليمية، وهذا ما أصبح ملموساً لدى أبناء الجيل الجديد. في المقابل، من السهل القول إن إلهاء الرأي العام بمثل هذه "التُرّهات" يُساهم في غضّ نظره عن الأمور الجسام التي تعبُر فيها البلاد. ولكن يبدو أن الموضوع، للأسف، يتجاوز هذا التبرير، وإن كان هذا الأخير جزءاً من أسبابه.
نظرياً، على المدرسة العامة أن تستقبل كل التلاميذ من دون أي تمييز أو تنميط. في حين أن بعض التلاميذ، الذين يعتقدون أنهم معنيون أكثر من سواهم بالقيود المرتبطة بانتماءاتهم، يميلون إلى الخلط بين مفهومي العلمانية والتمييز. وهذا الخلط ليس نتيجة لهيمنة دعاة أو متطرّفين يؤثرون في عقولهم فحسب، بل ينجم أيضاً عن قرارات أو تصرّفات تمييزية. وغالباً ما تؤدّي مثل هذه القرارات إلى تعزيز الشعور، الخاطئ ربما، بالتمييز، وإلى الانطواء الثقافي والتعصّب الديني، رغم أن المُراد به، كما ادّعى أصحابه، هو نقيضه. كما سيتحوّل بعض من الطلبة إلى المدارس الخاصة والدينية، ما يُعزّز من تشظّي المجتمع بعيداً عن قيم العلمانية والجمهورية. فمنذ الصفوف الابتدائية، يجهد الأساتذة في نشر مبادئ العلمانية تاريخاً وفلسفةً، ساعين إلى نشر قيم العيش المشترك مع قبول مختلف الانتماءات الثقافية والدينية والعرقية، ومع التأكيد على وجوب حياد الدولة ومؤسّساتها. ومن المفترض أن لديهم القدرة والذخيرة الفكرية لاستخدام الحوار والتوعية وسيلة ناجحة لمجابهة التعصّب الديني إن توضّح.
يحتجّ أستاذٌ على القرار الجديد للوزير الجديد، والذي سرعان ما صفّق له اليمينيون المتطرّفون منطلقين من موقف عنصري وديني، كما بعض اليسار المتطرّف بعلمانيّته إلى درجة تبنّي خطاب اليمين المتطرف، قائلاً: "نحن لسنا شرطة ملابس ولسنا شرطة علمانية".
... عباية.