عبث معهد العالم العربي
بديهي أن اليهود في المشرق كانوا من مكوّناته الاجتماعية ومن نسيجه العام، وإنْ ظلت مساهماتهم الثقافية فيه محدودة (أو هامشية). ولذلك لم يُحدِث تنظيم معهد العالم العربي في باريس معرضا كبيرا عنوانه "يهود الشرق، تاريخ يمتد آلاف السنين" (24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 - 13 مارس/ آذار 2022) أي تحسّس، سيما وأنه يجيء استكمالا لثلاثيةٍ بدأت في معرض "الحج إلى مكة" (2014)، تلاه "مسيحيو الشرق، تاريخ يمتدّ ألفي عام" (2017). ولكن خلطا بين هذا الأمر والصهيونية وإسرائيل مرفوض. وإذا كان يصدُر عن جهلٍ لدى القائمين على التظاهرة الكبيرة (افتتحها الرئيس ماكرون) فهذا مستنكرٌ ومستهجن، سيما وأن ثمّة كادرا عربيا في إدارة المعهد وفي وظائف التسيير والتخطيط فيه، ويفترض منهم مواجهة توجّه كهذا. ومعلومٌ أنه جرى الأخذ منذ إطلاق المعهد في العام 1987 بأن يكون المدير العام عربيا، وحاليا هو السعودي معجب الزهراني، والرئيس فرنسيا، وحاليا هو الوزير السابق جاك لانغ. أما إذا يصدُر هذا الخلط عن منظور سياسي يقيم عليه أهل القرار في المعهد العتيد، فإن أكثر من نقطة نظام يلزم إشهارُها، ليس لحمل السلّم بالعرض، وإنما لأن حروفا هنا في حاجةٍ لأن تُوضع عليها نقاطُها.
يعلن العضو في اللجنة العلمية القائمة على المعرض، دنيس تشاربنت، إن متحف إسرائيل ومعهد بن تسفي في القدس (المحتلة) أعارا معهد العالم العربي عشرين إلى ثلاثين عملا فنيا، لتكون ضمن معروضات المناسبة. وقال "هذا المعرض هو الثمرة الأولى لاتفاقيات أبراهام. وهذا يبدأ من خلال التطبيع، نحن لم نعد نخاف من إقامة معرض عن يهود الشرق. ولن تنطبق السماء على الأرض إذا عملنا تعاونا مع إسرائيل". والخطير في هذا الكلام أن صاحبَه يعطي إسرائيل حق تمثيل اليهود في تظاهرةٍ ثقافيةٍ عن الشرقيين منهم. بل إنه جاهلٌ ومنحازٌ، عندما يتحدّث عن تلك الاتفاقيات باعتبارها المدخل للتعريف بمنجزات يهود الشرق في أوطانهم، في اليمن ومصر والمغرب والعراق وتونس وإيران .. وكان على عضو اللجنة العلمية (هل فيها عرب؟ لا أدري) أن يعرف أن ثمّة نتاجاتٍ لمثقفين وكتّاب ومبدعين ومناضلين يهود عرب قامت على رفض إسرائيل، ونبذ الصهيونية، وأن هؤلاء رابطوا على نصرة الحق الفلسطيني، ومناهضة إقامة دولة الاستيطان والنهب. ومن لزوم اللازم هنا تزجية تحيةٍ إلى الحملة الفلسطينية العاملة للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) التي أفادَنا بيانها الاثنين الماضي بالتخريف البائس الذي نطق به المذكور. كما كانت لغة البيان في محلّها، في تأشيره إلى "تورّط المعهد في محاولات العدو الإسرائيلي المستمرة لتلميع جرائمه بحق شعوب المنطقة، وتوظيف الفن والثقافة والتاريخ في خدمة أغراضٍ سياسيةٍ واستعمارية"، وذلك عندما يقيم المعهد علاقاتٍ مؤسساتيةً مع جهاتٍ تابعةٍ للحكومة الإسرائيلية أو مؤسساتٍ أكاديميةٍ إسرائيليةٍ متورّطةٍ في منظومة الاستعمار الإسرائيلية، باستعارته قطعا أثرية من ذلك المتحف وتلك المؤسّسة.
من عجائب المعرض وغرائبه أن فرقةً موسيقية إسرائيلية تشارك فيه، تضمّ مغنيةً يهوديةً مغربية الأصل. ولو أن المعهد العربي حريصٌ حقا على تظهير ثقافة اليهود في المشرق لاكترث بما نشطت فيه الصهيونية في محو ثقافتهم، العربية مثلا، لصالح صهينتهم وتعزيز عدوانية العرب في حشاياهم، وربطهم بالمشروع العسكري للدولة العبرية. وفي السياق، تصير في محلها دعوة الحملة الفلسطينية للمقاطعة المدعوين العرب إلى التظاهرة، وإلى مهرجان "عيد اللغة العربية" إلى الانسحاب منهما. وجاء إلغاء الكوميديان الفلسطيني، علاء أبو دياب، نشاطا مقرّرا له في المعهد يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، استجابة محمودة. كما انسحبت الفلسطينية سهاد الخطيب من نشاطٍ آخر. وفيما أعلن الروائي اللبناني، إلياس خوري، انسحابه من ندوةٍ كان مقرّرا أن يشارك فيها، يستغرب ناشطون أن تطير "فرقة أدونيس" اللبنانية إلى باريس للمشاركة في فعاليةٍ للمعهد، وكذا رامي خليفة (نجل مارسيل خليفة).
... كان أداء معهد العالم العربي في باريس، في مئات الأنشطة والفعاليات في طوْرٍ مضى، ناهضا ونشطا، وأمينا للمنظور العام للمعهد، عن التعريف بالثقافة العربية. وكانت الدول العربية ملتزمةً بالمساهمة المالية عليها، 40%، فيما على فرنسا البقية، غير أن تدهورا كبيرا صار معايَنا في الأداء العربي العام، بعد استنكافٍ واسع من الدول العربية عن التمويل، وقلة الاكتراث العربي به (خلا المعهد ثلاث سنوات من مدير عربي). والعبث التطبيعي الحاصل في معرض يهود الشرق من بعض نواتج هذا الحال.