عدنان أبو عودة .. في العام والخاص
لم أكن أعرف عدنان أبو عودة، وإن كانت أخباره قد ملأت الدنيا حين سطع نجمُه، وذاع صيته، منذ عُيّن وزيراً للإعلام في الحكومة العسكرية في أحداث سبتمبر/أيلول 1970 بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، بعدما كان الملك حسين قد انتبه إليه وأولاه رعايته، مع بداية عمله محللًا في جهاز المخابرات العامة. منذ ذلك اليوم، بالنسبة إليّ، وإلى أبناء جيلي الذي انتسب معظمه إلى المقاومة الفلسطينية، ارتسمت صورةٌ سلبية في مخيّلتي عن أبو السعيد، فهو خصم المقاومة الفلسطينية، والمُحرّض ضدها، والمُنتمي إلى معسكر أعدائها، قبل أن يصبح، منذ منتصف السبعينيات، معظم قادتها من أصدقائه، ويترأس الوفد الأردني في المباحثات الأردنية - الفلسطينية الساعية إلى التوصل إلى صيغة اتحاد كونفدرالي بين الطرفين في منتصف الثمانينيات.
بدأت علاقتي مع أبو عودة، حين عملت في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، منسقًا لمشروع بحث القضية الفلسطينية وتوثيقها، وفرضت عليّ واجبات وظيفتي أن أقابل من كان له علاقة بها، وساهم في التأثير في حوادثها، وهكذا عرّفني الصديق خالد رمضان على أبو السعيد، وكان لقاؤنا الأول في منزله في ضاحية صويلح، وامتدّ ساعات، كان يغادرنا خلالها دقائقَ ليعود حاملًا أوراقًا ودفاتر، دوّنها في وقتها، يقرأ علينا منها. تكرّرت اللقاءات، وكانت زوّادتنا آلاف الأوراق التي خرج منها الكتاب الأول "يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 2017.
من لم يقرأ يوميات عدنان أبو عودة ومستدركها قد فاته الكثير عن تاريخ الأردن وفلسطين، وسيرورة العلاقات بينهما
كانت اليوميات بالنسبة إلينا كنزًا كبيرًا، فهي ليست مذكّرات، وهي تحمل رأي عدنان أبو عودة، أو مشاهداته، في حينه، ومحاضر الاجتماعات التي شارك فيها، والتي قد تتوافق مع آرائه اللاحقة أو تختلف عنها، فهي وثائقُ بنت مرحلتها التاريخية، ومن هنا أهميتها. يومها، سألت أبو السعيد عن سر اهتمامه بتدوين يومياته، فأجاب أن ابنته، حين كانت طفلة، عادت يومًا من مدرستها باكية تقول إن زميلاتها يصفْن أباها بالخائن، فعزم من يومها على كتابة يومياته ليدوّن فيها جميع ما يشهده من حوادث يشارك فيها، ويترك لعائلته ووطنه ما يمكن الحكم عليه من خلاله بموضوعية أكثر، بعد أن تنقشع المزايدات ويذهب غبارها. وبالفعل، شكّلت اليوميات بدايةً لعهدٍ تتالت فيه مذكّرات مسؤولين آخرين.
بعد عامين من نشر اليوميات، جاء أبو السعيد حاملًا معه ملفاتٍ جديدة، قال إنه ينقل مكتبه من الطابق الأول في المبنى الذي يعيش فيه ليسكنه ابنه المتزوّج حديثًا. وفي اليوم التالي ذهبت وزملائي إليه، وساعدناه في ترتيب مكتبته، وكانت الحصيلة كنزًا جديدًا، تضمّنت محاضر الاجتماعات الأردنية - الفلسطينية، ووثائق أخرى مهمة، وكانت نتيجتها "المستدرك في يوميات عدنان أبو عودة" الذي صدر في صيف عام 2021.
على الرغم من الحفاوة الكبيرة التي لقيها صدور الكتاب الأول، حيث حضر حفل إشهاره عديد من رؤساء الوزراء السابقين، ومسؤولون أردنيون وفلسطينيون بغالبيتهم، فإنني تعرّضت لهجوم قاسٍ من أصدقائي "يساريين سابقين"، اتهموني بـ "تلميع" عدنان أبو عودة. تراجع بعضهم عن رأيه بعد أن قرأ وتابع. ولعله بات جليًا أن من لم يقرأ اليوميات ومستدركها قد فاته الكثير عن تاريخ الأردن وفلسطين، وسيرورة العلاقات بينهما، وآليات عمل النظام السياسي في الأردن في عهد الملك حسين، وعلاقات الأردن العربية والدولية في عهده، بالنظر إلى أن أبو السعيد كان قد شغل موقع رئيس الديوان الملكي الأردني. وبحكم موقعه هذا فقد كان حضوره فاعلًا في المطبخ السياسي الذي ضمّه، إضافة إلى مروان القاسم، والأمير زيد بن شاكر، ومدير المخابرات، ورئيس الوزراء، وهو الإطار غير المُعلن الذي ميّز عهد الملك الراحل. وتميّزت نقاشاته، كما يظهر في اليوميات، بروح نقدية، وآراء جريئة ساهمت في رسم الإطار السياسي العام.
كان يرى أنّ من أهم مآسي النظام العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص، جهله بالصهيونية وأطماعها
توفي عدنان أبو عودة عن 89 عامًا، لكنه ظل متوقد الفكر، ومنتعش الذاكرة، حتى لحظاته الأخيرة. كنا نلتقي أسبوعيًا، وكان النقاش منصبّا دومًا على الصهيونية التي كان أبو عودة يرى أن من أهم مآسي النظام العربي، والفلسطيني على وجه الخصوص، جهله بالصهيونية وأطماعها. ولعلي هنا أسجل بجرأة أنه كان ليوميات عدنان أبو عودة، والنقاشات الطويلة التي أجريناها معه، أثر كبير في مراجعاتي النقدية، سواءً بما اتفقنا عليه، وهو الكثير الغالب، أو ما اختلفنا على بعض تفاصيله، إذ إن مجرّد محاورة أبو السعيد شكّل تدريبًا ذهنيًا كاملًا، كان كفيلًا بنفض كثير من غبار مراحل مضت، وإعادة التفكير نقديًا في مجرياتها، وفي رسم مستقبلٍ اجتمعنا على التفاؤل بمقدمه يلفُّ العالم العربي وفلسطين بظلاله، بعد أن بات نظام الأبارتهايد الصهيوني واضحًا في معالمه، واستمر الشعب الفلسطيني في صموده على أرضه، وبتعلق المهجّرين منها بالعودة إليها، على الرغم من جنوح بعض النظام العربي الرسمي في سياسات تطبيعٍ مخجلة.
غادرنا أبو السعيد، بعد حياة حافلة، انتقل فيها من حزب التحرير الإسلامي إلى الحزب الشيوعي قبل أن يصبح ضابطا في المخابرات الأردنية، تعرّض فيها لهحوم الفصائل الفلسطينية في بدايات حياته، وبعدها أصبح قناة الاتصال بينها وبين القصر الملكي. عمل رئيسا للديوان الملكي في عهد الملك الحسين، ومستشارا للملك عبد الله الثاني قبل أن تنتهي علاقته الرسمية بالقصر، محالاً أمام محكمة أمن الدولة بتهمة إطالة اللسان، غير أنّه، قبل أسابيع، كان ضيفاً في الديوان الملكي، ضمن استشاراتٍ أجراها الملك عبد الله مع مسؤولين سابقين.
توفي عدنان أبو عودة، وبقيت يومياته، وكتبه، ومحاضراته، وجُلّها محفوظ في أرشيف ذاكرة فلسطين في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وهي ما ستُبقي، إلى جانب عائلته وأصدقائه، ذكراه حيّة دوماً، وإلهاماً دؤوباً للباحثين المهتمين بدراسة المرحلة واستنباط دروسها وعبرها.