عشر سنوات بعد إطاحة طاغية تونس .. حذار من "الماضوية"
لا أدلّ على طول أمد الصراع مع ثقافة الاستبداد وعبادة الحاكم الفرد وتعثر مسار ما بعد الثورة أكثر من أنني على ثقة بأن كلمة "الطاغية" في عنوان المقال لن تروق لتونسيين كثيرين بعد عشر سنوات من فرار الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعودية. وإذا كان هذا هو الحال في تونس، فما بالنا بالمجتمعات العربية الأخرى التي أصبحت حظوظها من التغيير أكثر تواضعاً، ومصير انتفاضاتها على أشباه بن علي أقل حصاداً، وربما اتخذت تحولاتٍ مأساوية أيضاً، كما هي أحوال مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين والمغرب من الموجة الأولى للانتفاضات العربية، ثم الجزائر ولبنان والعراق، وحتى السودان، من الموجة الثانية مع عام 2019.
في تونس اليوم، وبعد عشر سنوات، تشتد الهجمة ضد ما تحقق بفضل الثورة على صعيد الحريات، التنظيم والصحافة والتظاهر والاحتجاج في الشارع والفضاء العام، بارتفاع الشكوى من "الفوضى". كذلك يتعرّض للقصف والتشويه والاتهام بالمسؤولية عن "تعطيل فعالية سلطة الدولة وآلة الحكم والإدارة" أهم نظام شبه برلماني أنتجته الانتفاضات العربية، يقوم على الانتخابات الأكثر نزاهة وديمقراطية نسبياً في المنطقة، وعلى التعدّدية الحزبية، والقطع مع صيغة الحزب الواحد وحزب الأغلبية الدائمة. وحقيقة من الخطأ إنكار تنامي الشك وعدم الرضا بين قطاعات من التونسيين، فمثل هذا الإنكار من أنصار التغيير والثورة بمثابة خطيئة، وليس مجرد خطأ.
يتعين الانتباه إلى حالة الخلط والاختلاط بين قوى الثورة وأعداء الثورة تحت عباءة سخط واحدة راهنة
وبالطبع، مراجعة مسار ما بعد الثورة وإدخال إصلاحاتٍ على ما استجدّ من مؤسسات وسياسات وقوانين وممارسات فرض واجب على من يتطلّعون إلى مستقبل أفضل يقطع مع الماضي. ولكن في الوقت نفسه يتعين الانتباه إلى حالة الخلط والاختلاط بين قوى الثورة وأعداء الثورة تحت عباءة سخط واحدة راهنة، وكذلك إلى المخاطر في هذه الحالة. كذلك يستحق الملاحظة الزخم الذي يحيط بدعوات إعادة إنتاج الأوضاع السلطوية التي قامت عليها الثورة. ومن أمثلة ذلك المطالبات بالعودة إلى نظام رئاسي قوي، والانقلاب على البرلمان، والاستهزاء بالحزبية والأحزاب وحرية تكوينها، والاستهانة بإرادة الناخبين، وقلة (ونفاد) الصبر على نضج اختياراتها، ورواج الطلب على استدعاء عضلات "الدولة البوليسية" بقوة مجدّداً في مواجهة حقوق المواطن والاحتجاجات الاجتماعية، ولو بدعوى مواجهة "عرقلة الإنتاج"، فضلاً عن صعود زعاماتٍ وأحزابٍ محسوبة بفجاجة على إرث بن علي، كما هو حال الحزب الدستوري الحر برئاسة عبير موسي، الأقرب إلى الشعبوية الفاشية في ممارساته وخطابه الإقصائي الاستئصالي والمعادي للثورة وللحريات والحقوق، وليس للإسلاميين فقط.
وفي السياق نفسه، ما يجرى عند حزب النهضة، القطب الآخر للاستقطاب الثنائي الجديد اليوم مع "الدستوري الحر"، حيث أرسل رئيس الحزب، راشد الغنوشي، إشارة أخرى وجديدة للمصالحة والتعايش مع نظام ما قبل الثورة، بتعيين الأمين العام لحزب بن علي المنحل (التجمع الدستوري الديمقراطي)، محمد الغرياني، مستشاراً له في رئاسة البرلمان.
تستمر أنظمة الاستبداد المتدثرة بالحداثة السطحية الزائفة، وتصارع لتعيد إنتاج نفسها، حتى بعد إطاحة رموزها العليا في السلطة، بل تستعين لاحقاً من أجل دوام بقائها بوجوه وقوى من خصومها أنفسهم، ولعل هذا ما تبرهن عليه التجربة التونسية بعد 2011؛ فقد أسفر طول الاستبداد وعمقه، وتغذيته ثقافة سلبية محافظة سلفية اتباعية غير انتقادية، عن تصحّر الساحة السياسية، إلا من صعود إسلاميي "النهضة" بعد رحيل الطاغية، وما زالت تونس تعاني من غياب تنظيم سياسي وازن، يمثل بديلاً شعبياً يترجم إرادة التغيير الجذري والتطلع إلى المستقبل والقطع مع الماضي.
أزمة تونس ما بعد الثورة هي من أزمة يسارها، وبما في ذلك تبنّي جانبٍ لافتٍ منه خطاباً إقصائياً استئصالياً تجاه "النهضة"
حقاً، كانت شعارات أيام الانتفاض والثورة يساريةً منحازةً للقوى الاجتماعية الشعبية بامتياز، ولكن اتضح لاحقاً تواضع إسهام الأحزاب والتنظيمات اليسارية في عمليات الهدم والبناء بعد الثورة، بما في ذلك المؤسسات التمثيلية الجديدة، وهذا لأسبابٍ موضوعيةٍ وذاتيهٍ لا مجال لتناولها هنا، على الرغم من حرية العمل والحركة غير المسبوقة، والتي لا تتوفر في المجتمعات العربية الأخرى.
ولعله يصح القول إن أزمة تونس ما بعد الثورة هي، إلى حد كبير، من أزمة يسارها. وبما في ذلك تبنّي جانبٍ لافتٍ منه خطاباً إقصائياً استئصالياً تجاه "النهضة"، يعادي قواعد اللعبة الديمقراطية وجماهير واسعة أسيرة الأيديولوجيا الإسلامية، وهي بالأصل تحتاج إلى الصبر والجهد والعمل الثقافي والتعليم والسياسة كي تتغير، أو أن تتغير "النهضة" ذاتها تغيراً حاسماً.
وما جرى أن القوى التي وازنت صعود "النهضة" في صناديق الانتخاب والإسلاميين عموماً (بما في ذلك ضجيج الضربات الإرهابية) جاءت على قاعدة إعادة الاعتبار "للدولة الوطنية".. دولة ما بعد الاستقلال، وإلى حد إضفاء القداسة عليها، وترويج صورة إيجابية أحادية مزيفة عنها، تنكر كل أخطائها وخطاياها مع زعامتها "البورقيبية"، وهو لونٌ من "الماضوية" يتناقض بالأصل مع الثورة، ومن حيث هي تغيير نحو المستقبل، وتجسّدت المفارقة كما قدمتها التجربة التونسية بعد 2011 في مكافحة "الماضوية الإسلامية" بـ "ماضوية الدولة الوطنية البورقيبية".
وهكذا صعد المشروع السياسي الذي قاده البورقيبي، الباجي قايد السبسي، من خلال حزب نداء تونس مع انتخابات خريف 2014، لكنه انتقل من المواجهة إلى التحالف مع "النهضة" في الحكم، وعلى قاعدة برنامج اقتصادي ليبرالي يميني. وهذا قبل أن يتفتت الحزب، ويضمحل مع انتخابات 2019. وبدلاً من أن تتوجه تونس بعد إطاحة الطاغية إلى تغييراتٍ جذريةٍ على صعيد الثقافة والتعليم لتمكين مواطنيها من التحرّر من "الماضوية"، الإسلامية والبورقيبية معاً، ومن أجل فتح الآفاق أمام بدائل مستقبلية، ما زالت البلاد ومعظم نخبها وكأنها تراوح في المكان نفسه وحبيسة المربع ذاته، بل تصبح اليوم مهدّدة، على صعيد السياسة ومؤسسات الحكم، بصعود الطبعة الأسوأ من أحزاب إرث "الدولة الوطنية" قبل الثورة، وحيث يسعى "الدستوري الحر" إلى أن يتصدّر تمثيل "البورقيبية".
شروط الاستدانة من صندوق النقد الدولي آفة قديمة تعود إلى السبعينيات في عهد بورقيبة
قيل كثير من الكلام الصحيح عن التنكّر، عشر سنوات، لأهداف الثورة الاقتصادية الاجتماعية من تشغيل وتنمية وتوزيع عادل للثروة. لكن الكذب الفج هو ادّعاء أن الأوضاع المعيشية كانت على ما يرام في عهد بن علي، وأن التونسيين كانوا ينعمون بجنة رغد العيش، وإلا لماذا انتفض الشعب وثار؟ وبالطبع، حكومات ما بعد الثورة مسؤولة عن هذا الإخفاق، وقد غلبت عليها التوجهات اليمينية، وبما في ذلك اتباع شروط الاستدانة من صندوق النقد الدولي، وهي آفة قديمة تعود إلى السبعينيات في عهد بورقيبة. وهنا تتعين الإشارة إلى أمرين: الأول، افتقاد الثورة والتغيير بمعناهما الشامل، مجتمعياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً، وسائل إعلام جماهيرية توازن ما تمتلكه وتوجّهه القوى المضادة المحافظة المحسوبة على ما كان قبل الثورة. وهذا على الرغم من تمتع تونس حالياً بحرية إعلام غير مسبوقة بمقاييس تاريخها محلياً وعلى الصعيد العربي الراهن. والأمر الثاني أن أي تغيير في تونس ما بعد 2010 جرى ويجرى في سياق إقليمي عربي غير مواتٍ، يعمل على إبقائها رهن ماضي ما قبل الثورة، وهو ينفق بسخاء من أجل هذا على الاقتصاد والسياسة والإعلام والثقافة والفن وغيرها.
ولعل الجغرافيا السياسية متجسّدة في قرب تونس من أوروبا أسهمت في الإبقاء على متنفس لثورتها، يقيها حصاراً وتدخلاً يقوّض ما تحقق نسبياً من حرياتٍ وتطوّر ديمقراطي، مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى. إلا أن "طوق الفلين الأوروبي" هذا الطافي فوق محيط إقليمي عربي مضطرب يدفع إلى الغرق يتطلب إعادة التقييم وتفهم محدّداته، إذ ليس كل الدعم الأوروبي إيجابياً من أجل التغيير، بما في ذلك المخصّص للمجتمع المدني الناهض، فثمّة دعم محدود بأفق ليبرالي شكلاني ومربك لأولويات تغيير المجتمع وللقطع مع الماضي. والأخطر أن جانباً من هذا الدعم يقوم على الاحتفاظ بشبكات فسادٍ، وزبائنية تنخر فرص البلد في التغيير.
وعلى أي حال، تفيد اليوم تجربة تونس، بعد عشر سنوات، بأن الصراع ما زال في مراحله الأولى مع قوى الاستبداد وثقافته، وعلى نحو خاص مع "ماضويةٍ" بأوجهٍ متعدّدة، يتعين الحذر من سطوتها وعواقبها. ولكن متى أنجزت ثورة ما في التاريخ التغيير في عقد واحد؟ وعلاوة على هذا، ألا يستحق ما اكتسبه التونسي من حرياتٍ وحقوق، مقارنة بمحيطه العربي، قدراً من الالتفات والتفاؤل؟