عفاريت السكك ومؤامرة حوادث القطارات في مصر
كان لافتاً أن يطلب وزير النقل المصري، كامل الوزير، الحضور إلى مجلس النواب، وإلقاء بيان بشأن مشكلات السكك الحديدة، بعد أن تجاهلت الحكومة مطالبات سابقة، من أعضاء المجلس، بحضوره، لتفسير حوادث القطارات المتتالية، إلا أن الدهشة تبدّدت، حين طالب الوزير المجلس، بعد إلقاء بيان تفصيلي بإنجازات الوزارة، بإصدار قانون يسمح بفصل عمّال من هيئة السكك الحديد، بدعوى انتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومناصريهم من "عناصر إيثارية"، وجاء الطلب مقترناً باتهامهم بتدبير حوادث القطارات أخيراً. يلجأ الوزير إلى النواب، على حد تعبيره، بعد أن فشلت الوزارة في التخلّص من المخرّبين. وهذه الرواية تعني، ضمنياً، أن كل الوسائل القانونية والإدارية لم تمكّنه من إثبات الاتهام، فقرّر أن يفصلهم عبر قانون مخصص لذلك، ودفعة واحدة. ويتّضح، من السياق، أن الاتهامات وليدة منظور تآمري مدفوع بموقف سياسي، وتقدّم بوصفها إطاراً لتفسير مشكلة حوادث القطارات وحلها. وإلى حين صدوره، طالب بنقل من سمّاها "العناصر الإيثارية" إلى وزارات أخرى أقل حساسية.
يكشف تصدير المشكلة بوصفها أعمالاً تخريبية عن ذهنيةٍ لا تقبل أن تواجه بتحدّيات أو إخفاقات
وفي محاولةٍ لإثبات التهم، عرض الوزير منشوراً لأحد العاملين في السكك الحديد، عن مسلسل "الاختيار" (يركز على بطولات الشرطة)، وكأن مشكلة قطاع السكك الحديد، بما فيها حوادث، وليدة صراع وانتماء سياسي، ولم يكتب عنها عشرات الدراسات، ووضعت لها خطط للإصلاح والتطوير، بما فيها الخطط الحكومية، التي تناولها الوزير، ومن سبقوه في المنصب، وجاء في البيان على خطوط عريضة منها، وهي تتضمن علاج بعض أوجه القصور، سواء ما تعلق بتطوير نظم الإدارة أو شراء معدّات وقطارات جديدة، وتطوير نظم الإشارات والإنذار، وتدريب العاملين ورفع كفاءتهم، وتحسين نظم الرقابة والمحاسبة.
ويكشف تصدير المشكلة بوصفها أعمالاً تخريبية عن ذهنيةٍ لا تقبل أن تواجه بتحدّيات أو إخفاقات، خصوصاً أن الوزير قادم من منصب عسكري، ومرّ بتراتبيةٍ، يظن بعضهم أنها تبعده عن موضوع المسألة والمحاسبة، والأسهل له ولمناصريه في الأزمة الحالية، ومن أجل تخفيف الأزمة أمام الرأي العام، أن تُفسَّر بوصفها مؤامرةً، يقودها مخرّبون مناوئون لسياساته، وأنه غير قادر على المواجهة عبر البنية التشريعية الحالية، ويحتاج قانوناً صارماً يسمح باستبعاد المخربين، غير إشارات إلى أن الأجهزة المختصة، الأمنية والرقابية، وجهات التحقيق، لم تتمكّن من مواجهة "العناصر الإيثارية" بكل ما لديها من أدوات.
المطالبات المتكرّرة بتشريع قوانين الخوف والإذعان تكشف تصورات السلطة التنفيذية لوظائف مجلس النواب، وسعيها إلى توظيف هذا المجلس
المجتمع المصري أمام ظاهرة تزامن الأزمات، مع بروز اتهاماتٍ، ذات صبغة عمومية، تتجه إلى مكونات سياسية يجري إجمالها في "الإخوان المسلمين". ويتسع التصنيف أحياناً، حسب الموضوع، ليضم مخرّبين يمثلون الطابور الخامس من حقوقيين وسياسيين (بمختلف توجهاتهم) وأنصار ثورة يناير ورموزها، وكل هؤلاء هم سبب الأزمة وكل أزمة.
بالإضافة إلى ذلك، تكشف المطالبات المتكرّرة بتشريع قوانين الخوف والإذعان تصورات السلطة التنفيذية لوظائف مجلس النواب، وسعيها إلى توظيف هذا المجلس، حتى وإن كان بعضهم يضيق بالشكل الديمقراطي، ويعطّل الأدوات الرقابية، إلا أنه، في محصلة نهائية، يراد أن يكون المجلس إحدى أدوات السلطة التنفيذية، سواء في ما يتعلق بدوره التشريعي، أو حتى استخدام أدوات الرقابة والمسألة للتخلص من بعض الأشخاص. وهو ما يمكن رؤيته، بوضوح، في الفرق بين تعامل البرلمان مع وزير الإعلام، أسامة هيكل، ودفعه إلى الاستقالة، عبر هجوم مكثف داخل البرلمان (عبر أدوات رقابية) وخارجه، على خلفية نقد الوزير منظومة الإعلام الرسمية، وحالة الترحيب والاحتفاء بوزير النقل، كامل الوزير، وإبراز "جهوده وإنجازاته"، على الرغم من حوادث القطارات المتتالية، التي كانت سردية المؤامرة في تفسيرها ضرورية، لتبرئة الوزير بدلاً من محاسبته، ومدح سياسات الحكومة بدلاً من نقدها، لأن فكرة المؤامرة، ضمن نتائجها نفي مبدأ المحاسبة، لمن في مواقع اتخاذ القرار، بل تحلّ مكانها المطالبة بالمساندة والتضامن ضد المتآمرين والمخرّبين.
خطاب المؤامرة ينشئ وعياً زائفاً وموقفاً خادعاً، وينشر أجواء الخوف والريبة، فإنه عملياً يقلّص فرص مناقشة المشكلات
كذلك يرسل وزير النقل، عبر حضوره في البرلمان بطلب شخصي منه، وليس استجابة لمطالبة أعضاء البرلمان، رسائل بأنه يستدعي ولا يُستدعى، ويطلُب لا يُطلب منه، وأنه، بوصفه وزيراً برتبة فريق وقائداً سابقاً في سلاح المهندسين، ليس كما باقي الوزراء المدنيين، وأن أدوات الرقابة والمسألة والتشريع توظف من أجله لا ضده. ويعكس خطابه أن نظرته إلى المشكلات خاضعة لمنظور أمني في الأساس، يواجه بها الأزمات التي يُحدثها المخرّبون الذين يتحملون أسباب حوادث القطارات، وكأنها أزمات جديدة، ومرتبطة بصراع سياسي. وبالمنطق ذاته، يحق لكل حكومة سابقة أن تتهم المناوئين لها بتدبير حوادث القطارات، بما فيها حكومة الإخوان المسلمين التي شهدت حوادث للقطارات عام حكمهم، غير تبرئة حكومات حسني مبارك، من حوادث مماثلة ما دام الحوادث سببها المخرّبون.
وبجانب أن خطاب المؤامرة ينشئ وعياً زائفاً وموقفاً خادعاً، وينشر أجواء الخوف والريبة، فإنه عملياً يقلّص فرص مناقشة المشكلات، بشكل علمي وعقلاني، ويهمّش فرص اختبار جدوى التوجهات والسياسات، ومدى صلاحية نظم الإدارة، ويهمّش من التعامل المهني والاستناد إلى أطروحات المتخصصين وأصحاب الخبرات في ملفات النقل والسكك الحديد، لصالح منظور العدو الخفي، في مقاربة إلى تفسير الحوادث بوجود عفاريت في السكك.
ليس في مصلحة السلطة أن تعمي الأنظار عن مخاطر حقيقية بسردية المؤامرة، لأنها ببساطة لن تحل الأزمة
وبالطبع، لا يستند خطاب أن المتآمرين خلف حوادث القطارات إلى وقائع مقنعة، فضلاً عن أنه يتجاهل دراساتٍ، حكومية وغير حكومية، حول مشكلات قطاع السكك الحديد، ولم يكن متسقاً أن تكون خطة الوزارة في التطوير مستندة إلى منظومة تطوير الإدارة وقدرات العاملين، وسدّ العجز في المعدّات (منها جرارات وقطارات ونظم الإشارة)، وأن يجري التركيز على سردية أن الحوادث سببها مخربون، التي تصبّ، في النهاية، في تجاهل أسباب الحوادث، والتي ترتبط بثلاثة عناصر رئيسية: أحوال الطرق ومعدّات التشغيل ومستلزماته، ونظم الإدارة وسياساتها، وثالثاً العنصر البشري. وبالمناسبة، لم تشر تحقيقات النيابة إلى القصدية، بل أعلنت أسباباً، منها تعاطي بعض السائقين المخدّرات، وتجاوز السرعة والإهمال، وتعطل نظم الإنذار، وهذه الأسباب المباشرة، غير وجود مشكلاتٍ تتعلق بطبيعة الطرق، ونظم التشغيل والتحكّم.
وأخيراً، لم تعد معالجة الأزمات عبر التحصن بسردية المؤامرة ذات جدوى، ولا يلتف حولها جمهور واسع في المجال العام، بل تكون أحياناً محلّ تندّر وسخرية، ويُنظر إليها بوصفها أداة دفاعية، تبرّئ ساحة متخذي القرار، عبر البحث عن عدو يتم تلبيسه الأزمة. حتى بعض المؤيدين للسلطة لم تعد هذه الطريقة مقنعة لهم، وهم غير قادرين على ترويجها، وليس في مصلحة السلطة أيضاً لو تعاملت بعقلانية أن تعمي الأنظار عن مخاطر حقيقية بسردية المؤامرة، لأنها ببساطة لن تحل الأزمة، أو تحد من مشكلاتٍ لها جذورها وأسبابها المعلومة، والقابلة للقياس والدراسة.