"عقل بوتين" على شاشة مصرية
استضاف الإعلامي المصري عمرو عبد الحميد، قبل أيام، للمرّة الثانية، المفكر القومي الروسي ألكسندر دوغين، على شاشة قناة تن المصرية. ولأن عبد الحميد، بالإضافة إلى مهنيته، باحثٌ متخصّصٌ في "الأوراسية"، جاء الحوار مليئًا بالقنابل. بدا دوغين متصلبًا وتلفيقيًا ومتوترًا، بشكلٍ ربما يعكس حالة الدوار الروسي العنيف التي تختبئ خلف التهديدات النووية المتكرّرة التي أطلقها كبار المسؤولين الروس (الرئيس نفسه، ورئيس الوزراء والرئيس السابق ميدفيديف، ووزير الدفاع شويغو)، والخلاصة الأعم في كلام دوغين أمران: أن روسيا تخوض "معركة وجود"، وأن البوتينية سبيل الخلاص الوحيد. وعندما يغرق مُنتِج أفكار في مستنقع القطعيات والتصوّرات الحدّية (بل الانتحارية)، فإن ما خلف السطور يكون قناعة بحتمية الاستمرار في لعبة صفرية لم يعد ربحها ممكنًا!
وإحدى الرسائل التي كرّرها دوغين، في إطلالته التي تحمل دلالات كبيرة، وبخاصة في ما تضمّنه من توصيفات وتعميمات عن العرب والمسلمين، أن العالم أصبح منقسمًا إلى فسطاطي الكفر والإيمان، (على طريقة تنظيمات العنف ذات الخطاب الإسلامي)، وبمفرداتٍ أخرى: فسطاط الغرب وفسطاط الباقين، وهي إعادة إنتاج للفكرة الغربية التي لا تقل بؤسًا: "The West and the Rest". وبحسب المفكر الكبير، الصين والعرب والمسلمين وشعوب أميركا اللاتينية جميعها تعتنق "البوتينية"، وتمنعها أسبابٌ، تختلف من مكان إلى آخر، من الاصطفاف في مواجهة "العولمة" التي يفرضها الغرب قسرًا. وفي مشهد تلفيقي باتساع خريطة العالم، يؤكّد دوغين أن قيم البوتينية هي نفسها قيم كل التشكيلات الحضارية الكبرى في العالم، باستثناء الغرب!
والتفكير بهذا المنطق مريح لمن يستخدمه، لكنه يوفّر تربة خصبة للأفكار العدمية الأكثر قابلية لتدمير العالم بدعوى إنقاذه. وخلال ساعات قليلة من حوار دوغين المتلفز/ المفخّخ كانت العدوى تنتقل إلى لغة خطاب من يُفترَض أنه الرجل الثاني في النظام الروسي: ديمتري مدفيديف، الرئيس السابق، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، الذي ردّد، متناغمًا مع تصريحات مشابهة لمسؤولين روس كبار، إن روسيا سوف تنتصر أيّا كان الثمن، وضمن الأثمان التي أصبحت غير مستبعدة: استخدام السلاح النووي واحتلال كييف، ما يعني، في حال حدوثه، إزالة دولةٍ من على خريطة العالم، وليس الاكتفاء باحتلال جزء من أراضيها. وفي مؤشّر خطير، قال ألكسندر دوغين إن انسحاب روسيا من القرم أو المناطق التي تقرّر ضمها من الأراضي الأوكرانية مستحيل.
يعتبر دوغين الصراع الذي تخوضه روسيا صراع "الروحانية" مع "المادية"
وإلحاح دوغين الشديد على ضرورة "استدامة" البوتينية بعد بوتين، وتأكيده أن الجيش الروسي كان غارقًا في أوهام السلام فلم يستطع إنجاز أهداف "العملية العسكرية الخاصة" التي يُفتَرَض أنها "أقلّ من حرب"، يرجع إلى أسبابٍ بينها أن القسم الأكبر من النخبة الرسمية الروسية أقلّ من التحدّي التاريخي الوجودي الذي تخوضه روسيا، وما بدأ منذ عام بقرار اجتياح أوكرانيا هو (كما يؤكّد دوغين) "حرب" وليس "عملية عسكرية خاصة"، فهل يعني ذلك، ولو احتمالًا، أن روسيا في قبضة أقلية "أوراسية" أكثر تشدّدًا من بين رموزها: الرئيس فلاديمير بوتين، والرئيس السابق ديمتري ميدفيديف، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، ووزير الخارجية سيرغي لافروف؟
وهل أحد المرتكزات الرئيسة لتصوّر دوغين الذي تتبنّاه هذه الأقلية المتشدّدة أن روسيا إما أن تحصل على كل شيء أو تدمر العالم، على قاعدة: كل شيء أو لا شيء؟ يؤكد دوغين، بلغة حاسمة، أن هذه المعركة معركة المسلمين الذين يشاركون "الأوراسية" طبيعتها "الجماعية" مقابل الطبيعة "الفردية" لمشروع العولمة الغربي، فهل هذا التعميم صحيح؟ فالجماعية كانت سمة النظم الأكثر دموية في التاريخ الحديث: النظام النازي، النظام الستاليني، نظام الخمير الحمر في كمبوديا، الحقبة الماوية في تاريخ الحزب الشيوعي الصيني، وجميعها نظم أبادت بعض مواطنيها لأجل الانتصار في "معركةٍ وجودية"، حقيقية كانت أو مُتوَهَّـمة.
كان الصراع الأميركي السوفييتي في حقبة الحرب الباردة، في نظر الرئيسين الأميركيين هاري ترومان ودوايت أيزنهاور، صراع قيم أساسه عقائدي، (وهو ما عاد إليه الرئيس روونالد ريغان في ثمانينيات القرن الماضي)، واليوم يمتلئ خطاب كل من دوغين وبوتين ومدفيديف بالمفردات نفسها تقريبًا، بل اعتبر دوغين الصراع الذي تخوضه بلاده صراع "الروحانية" مع "المادية" ... ولا تعليق!