عقوبة الانقلاب أو مكافأته
الانقلاب العسكري، في كل مكان وزمان، مهما كان مبرّره أو عقيدته، حين يطيح سلطة منتخبة، في ظل حياة سياسية توفر الحد الأدنى من مجالات الاختيار والانتخاب والتعبير والتنظيم والأحزاب، يجب أن يُعاقَب. هذه قاعدة ظلت نظرية ولم تُطبَّق على صعيد عالمي يوماً. واجب التدخل الإنساني ظلّ مرذولاً باعتباره خرقاً لسيادةٍ غالباً ما تكون غالية على قلوب مبرّري الديكتاتوريات والجرائم ضد الإنسانية والإبادات، وبعض من هذه أو جميعها تتخصص فيها الانقلابات العسكرية حين يحاول سكان البلد مقاومتها. لكن ترجمة معاقبة الانقلابيين ليست ببساطة القاعدة النظرية. التدخّل العسكري أحياناً يؤدّي إلى حروب أهلية وأحياناً أخرى لا يفعل. تفيد التجارب التاريخية، من كوبا إلى كوريا الشمالية فسورية وبورما ومالي وبوركينا فاسو وإيران اليوم، مروراً بعراق زمن صدّام حسين، أن فرض العقوبات الاقتصادية يضرّ الشعب أولاً، ولا تصل مفاعيله إلى النخبة الحاكمة وجيشها وأدوات قمعها إلا متأخرة. العزلة الدولية ليست مشكلة للانقلابيين، بل غالباً ما تكون شرطاً لبقائهم الذي يقتات من علاقات محدودة للغاية مع قوة دولية تعتبر الانقلابات والحكم العسكري والتسلط فضائل، كالصين وروسيا. جميع الأمثلة المذكورة أعلاه على الأقل تصح عليها تلك الملاحظة. لا يعني ذلك أن أميركا والغرب لا يحبان الانقلابات حين تخدم مصلحتهما، لكن بما أن كل شيء نسبي في هذه الدنيا، فليست مساواة أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا مثلاً من جهة، مع روسيا والصين من جهة ثانية، لناحية رعاية أشد الانقلابيين دموية في العالم، إلا عمى كاملاً وكذباً على النفس وعلى الآخرين.
قد يصلح انقلاب النيجر لأن يكون حالة للدراسة. حافظ الغرب على مسافة من الحدث، وتولى "أهل المنطقة" من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) زمام الضغط والتفاوض والتهديد بهدف إعادة السلطة الشرعية المنتخبة إلى مكانها الطبيعي، وإعادة الجنرالات إلى ثكناتهم أيضاً. رفض الانقلابيون التفاوض ونالوا دعماً معنوياً وعسكرياً وسياسياً من مرتزقة روسيا (فاغنر) وانقلابييها الأفارقة من مالي وبوركينا فاسو وكلاماً من مسؤولين عرب لا يعني، بالصيغة التي صدر فيها، إلا تطبيعاً مع الوضع القائم الناتج عن الانقلاب على قاعدة "عفا الله عما حصل". الجزائر كانت الأبرز في هذا السياق، فالتدخل "لا يمكن إلا أن يزيد الأوضاع تعقيداً وتأزماً وخطورةً على النيجر وعلى المنطقة" إذا ما اقتبسنا وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف. لكن ما الحل من منظور الجزائر المهجوسة بالتخلّص من أي أثر فرنسي في المنطقة، وانقلاب النيجر يؤمن لها هذا الهدف على حدودها الجنوبية، ويرمي ببلد جديد غربي أفريقيا في صفوف المعسكر الروسي؟ الجواب تقدّمه دائماً وزارة الخارجية بصيغة تفسير الماء بالماء بعد العناء: الحلّ يكمن في "العودة إلى النظام الدستوري واحترام متطلبات دولة القانون". هذا هو الهدف. لكن ما هي الوسيلة في ظل انقلاب عسكري يعتقل ويلغي الدستور والبرلمان والانتخابات ويحكم بقوة السلاح ويرفض التفاوض ويغلق الأجواء والأفواه والعقول؟ مشروع جواب يأتي من موسكو، المستفيدة الأولى من الانقلاب إن لم تكن فاعلة في حصوله ومحرّكة له: "ما يحدث في النيجر شأن داخلي حله متروك للأطراف المتنازعة" حسب وزارة الخارجية الروسية. الترجمة الفورية: فلينتصر الطرف الأقوى (العسكر) على باقي الأطراف المتنازعة.
يحقّ لأفراد ولجمعيات ولمثقفين أن يكتفوا برفع شعار "لا للحرب" في مواجهة احتمال تدخل عسكري كالذي يمكن أن يحصل في النيجر قريباً، من دون أن يقترحوا بدائل سلمية تعيد الحياة السياسية إلى المؤسّسات وصناديق الاقتراع. لكن الدول المعنية بتطوّرات بلد ما ليست أفراداً ولا جمعيات ولا روابط مثقفين، فكلما رفضت خيار التدخل العسكري من دون اقتراح البديل السلمي لإعادة إحلال الشرعية، تنفّس الحالمون بتنفيذ انقلابات جديدة الصعداء، وأملوا بغد انقلابي أفضل.