علمانية فرنسا تؤجّج التطرّف
يبدو أن حالة الاندفاع والرعونة التي تميز السياسة الخارجية الفرنسية، في عهد إيمانويل ماكرون، بدأت تتسلل إلى مختلف جوانب إدارة السياسة الفرنسية، بما فيها الداخلية المتعلقة بالاندماج المجتمعي، والتفاعل بين مكونات المجتمع الفرنسي. قبل سنوات، تعاملت الحكومة الفرنسية مع حادث مجلة شارلي إيبدو بدرجة عالية من العقلانية والحكمة، وإن مالت فيها إلى تعبئة المجتمع الدولي ضد التطرّف والعنف "الإسلاموي" في المجتمع الفرنسي. ولكن يبدو أن باريس، بمرور الوقت، لم تعد معنيةً كثيراً بتكييف قراراتها وتبرير مواقفها من العلاقة مع الآخر المختلف داخل فرنسا، فصارت مواقفها مكشوفة وغير موضوعية، ليس في الواقع، فهي كذلك من قبل، وإنما في تمظهرها أمام العالم، فقد أعلنت الحكومة الفرنسية أنه لن يتم التحقيق في حادث الخميس الماضي في مدينة أفينيون بوصفه هجوما إرهابيا. على خلاف التكييف الذي تبنّته باريس لحادث الطعن الذي سبقه بساعات في مدينة نيس، وراح ضحيته ثلاثة أشخاص.
وفقاً للتصريحات الرسمية، كان المشتبه به في حادث أفينيون ينتمي إلى حركة الهوية اليمينية المتطرّفة، وكان يرتدي سترة مكتوبا عليها "دفاعاً عن أوروبا". وعلى الرغم من أنه قُتل برصاص الشرطة لأنه لم يلق سلاحه، لم يقل أحد إنه كان ينوي استخدام سلاحه سواء باتجاه الشرطة أو آخرين. وهو الاستنتاج الوحيد الذي كانت ستتبنّاه السلطات الفرنسية لو كان الرجل مسلماً. بل سارعت السلطات الفرنسية إلى إيجاد تفسيرٍ للحادث يبتعد عن "الإرهاب" أو "التطرّف"، وذلك بإعلان المدّعي العام الفرنسي أن المهاجم كان يعاني من مشكلة نفسية، وبالتالي لن يتم التحقيق في الحادث باعتباره هجومًا إرهابياً!
وتتجه باريس إلى إغلاق أو بالأدق لفلفة ملف الحادث، إذ أحجم المدّعي العام عن كشف مزيد من التفاصيل عن هوية المهاجم، وتجنب الإشارة إلى ما ذكره أحد من تعرّضوا للهجوم، بأن المهاجم ألقى التحية النازية، قبل أن يصوب السلاح تجاهه. أما الرئيس ماكرون، فقد تجنّب في تصريحاته تناول الحادث أساساً.
هذه الازدواجية الفرنسية هي السر وراء استمرار التطرّف العنيف وتناميه في المجتمع الفرنسي، بمختلف أطيافه وانتماءاته الدينية والفكرية، فهو غير مقصور على المسلمين أو ذوي الأصول غير الفرنسية، فباريس ترى التطرّف أو العنف بعدسةٍ لا تمرّر سوى صورة المسلمين وتكبرها، فيما تحجب غيرهم. ولا تقتصر تلك الرؤية الانتقائية المتحيزة على إدراك السلطات الفرنسية لأحداث العنف أو للتوجهات الفكرية والإعلامية المتطرّفة. بل حتى الإجراءات والقرارات التي تعتبرها باريس ضروريةً للحفاظ على العلمانية والمدنية في الحياة العامة، اتخذت بانتقائيةٍ شديدة، ضد المسلمين أكثر من غيرهم. مثل منع الرموز الدينية في الأماكن العامة ومنع ارتداء الحجاب.
العلمانية الفرنسية غير محايدة، فهي ليست ضد الأديان ككل، وإنما ضد الإسلام وأتباعه تحديداً، وعلى الأقل تستهدف المسلمين أكثر من غيرهم.
وعلى الرغم من أن المد اليميني المتطرّف يجتاح أوروبا منذ سنوات، إلا أن فرنسا من أكثر الدول الأوروبية تقاعساً عن مواجهته. ليس فقط مقارنةً بدول أخرى، مثل ألمانيا التي تعاني من تطرّف يميني يمكن وصفه بالتاريخي، إذ يمتد إلى الحركة النازية، وإشكالية التفوق العرقي القديمة. بل أيضاً بالمقارنة مع تعاطي فرنسا ذاتها مع الموجات الفكرية والسياسية داخلها.
صحيحٌ أن لذلك الموقف المتخاذل أسباباً مجتمعية واضحة، يجسّدها صعود ممثلي اليمين في الحياة السياسية، وتزايد التأييد لهم في الاستحقاقات الانتخابية. لكن الثابت أيضاً أن الحكومات الفرنسة المتعاقبة لا تبذل جهداً كافياً، ولا تقوم بما عليها من سياساتٍ وقرارات، لمواجهة هذا التحوّل السلبي البغيض للعلمانية من الحياد تجاه الأديان والعقائد والفصل بين مقتضيات الحياة العامة والممارسات والشعائر الدينية. صارت تقوم بإجراءاتٍ عنصريةٍ وتمييزيةٍ، تكفي وحدها لتأجيج التطرّف المتزايد أصلاً، وتحريض التطرّف المضاد.