علم النفس الجماعي لدراسة "الجماهير السورية"
هل يمكنني البوح بأنني شعرت بالغيرة من باريس وأنا أجول فيها أخيرا، من دون أن أتّهم بالجنون؟ كيف يغار شخص من مدينة؟ لكنني شعرت بغيرة تأكل صدري، وأنا أرى مظاهر البهجة والاحتفال بالعودة إلى حياة مشتهاة تعمر الوجوه. أرى الناس يقفون في الطوابير، وهم يضعون الكمامات ويحتفظون على مسافة التباعد بكل ممنونية وانتظار المشتاقين، ليس أمام الأفران أو محطات الوقود أو محال البيع للسلع المدعومة، بل أمام المقاهي التي فتحت ترّاساتها فقط، وما أكثر الترّاسات في باريس. ليس هذا فحسب، بل منحت الحكومة في الشوارع لكل مقهى أو مطعم فضاء سيارتين من مساحات الوقوف لصالح تلك المحلّات، كي يعوّض أصحابها جزءًا من خسائرهم التي كبدّهم إيّاها الإغلاق الطويل. الغيرة كانت الطور الثاني مما عشتُه في هذه الفترة، بعد أن استهلكتُ دموعي وأنا أبكي أمام الشاشة على هذا الشعب الزاحف لممارسة "حقه الديمقراطي"، وهو منزوع الحقوق كلّها، حتى وأنا أشاهد الاشتباكات بين السوريين الزاحفين إلى سفارة بلادهم في لبنان وبعض اللبنانيين، بكيت على الشعبين معًا.
عند عودتي من التسكع الفضولي، فتحت "فيسبوك" لتطالعني مشاهد الجماهير الزاحفة في اللاذقية إلى المدينة الرياضية، لحضور الحفل الذي يقيمه الفنان جورج وسوف، وآخرون معه ابتهاجًا بـ "العرس الديمقراطي" الذي نجمت عنه إعادة انتخاب الرئيس سبع سنوات أخر، مدعوما بشاشات عملاقة في بقية الأحياء والساحات في المدينة. حفل مجاني لشعبٍ طيّب، سعيد بحياته يعرف كيف يبتهج بها، وكيف يطرب مع سلطان الطرب "أبو وديع" الذي لم يحتمل صعود المبتهجين المليئين بالحماس، منذ أيام، إلى الحلبة وتزاحمهم، حدّ أنه كاد أن يختنق. هذا الشعب حياته مؤمّنة ورغيفه ناضج يفوح برائحة الحياة، ولا يعاني من أي أزمةٍ، على الرغم من عشر سنوات انهار فيها وطنه وشُرّد نصفه. نزح من نزح وهاجر من هاجر إلى دول الجوار، المصابة التي تئن تحت ثقل مشكلاتها أيضًا، أو إلى ما خلف البحار. قبلها كانت هناك مليونية أخرى في حمص، وقبلها مئات الآلاف ممن يتوافدون إلى الساحات، أو يجوبون الشوارع يعلون الصوت يغنّون، يدبكون، يفردون أذرعهم للحياة التي لم تعد تأبه بهم منذ سنوات طويلة، كما لو كانوا في طقس جماعي غائبين في نشوةٍ سريّة الخلطة.
تم الاشتغال عقودا على بناء شخصيةٍ تتوفر لديها جميع مقومات الاندماج حدّ الذوبان في مجتمعٍ مبني على أسس التلقي والامتثال
كتب الكثير عن هذه الظاهرة، وعن ظواهر أخرى كثيرة مواكبة أو مماثلة لها. لكن أن تعود هذه السلوكيات الجمعية، وبمثل هذا الزخم، إلى ممارسات الجماهير على الرغم من مأساوية واقعهم، فإنها نقطةٌ فائقة الأهمية والحساسية، تتطلب التوقف عندها ودراستها بجدّية وتمعن وروح نقدية.
تحتاج هذه الظاهرة، بعد سنوات عشر من الحرب والدمار وانهيار الحياة، وإذلال الناس بكل أشكال القهر والحرمان والتضييق على حرياتهم، والاستهتار بأبسط مقومات حياتهم، وقربهم من الخروج من ركب الحياة الماشية إلى الأمام، تحتاج متخصصين في علم النفس الاجتماعي، بالتضافر مع علم نفس الجماهير أو علم النفس الجماعي، فالأول تقدّم نتائجُه مبرراتِ لفهم الثاني.
لقد تم الاشتغال عقودا، بل وقرونا، بآليات أخرى، على بناء شخصيةٍ تتوفر لديها جميع مقومات الاندماج حدّ الذوبان في مجتمعٍ مبني على أسس التلقي والامتثال، وتبني منظومة قيم ومعارف، تحيل الفردية إلى واحدٍ من العيوب التي يخجل منها الفرد، ويخفي نزوعه الفطري نحوها، بل ويهابها، ليس فقط النظام الحاكم أو السلطة السياسية وحدها من اشتغل على إنتاج هذه الشخصية الامتثالية، بل السلطان الاجتماعي والديني، وسلطة الجماعات المتعدّدة والوافرة في سورية، من جماعات قومية إلى دينية إلى طائفية ومذهبية، إلى موروث اجتماعي صيغت أعرافه بإحكام على مرّ القرون. وكان أن بلغت هذه الظاهرة أوجها في القرن الواحد والعشرين، القرن المفترض أن يعيش الناس فيه ضمن دولٍ حديثةٍ قائمة على نظم ديمقراطية تعدّدية تحترم الحريات وتصونها، وتضمن الحقوق الإنسانية، وتشجّع على الفردية والتميز، فإذا بالحرب تكشف الغطاء، وتظهر أن الشعب السوري، في قسم كبير منه، كان يعيش بالعقلية القبلية وبأعراف القبيلة ونظم ما قبل الدولة.
غالبية الشعب لا تعي مفهوم الوطن والمواطنة وإلّا لما وصلوا إلى ما هم عليه من صدوعٍ وانهيارات
إذا أردنا استعمال علم النفس الجماعي معيارا لتفسير سلوك الحشود المحتفلة في سورية، ضاربة عرض الحائط بخطر كورونا القاتل، وبكل الأزمات القاتلة التي يعيشها الشعب والعيش المضني الذي يسطو على حياتهم، وبأن النظام لم يقدّم لهم برنامجًا ولا وعودًا ولا أملا في الخروج من اختناقهم في عنق زجاجة مهينة، فلن نستطيع الوصول إلى نتيجةٍ مُرضية، لأن كل القرائن والبراهين التي يمكن للعقل استحضارها سوف تأتي ونقيضها معها، أو ثغراتها على الأقل، فإذا كان الانتماء الديني هو المحرّض الأول لغريزة الجماهير وحماسها، فالحرب استعرت بفضل التناحر الديني والمذهبي. وإذا كان الانتماء القومي، فالانقسامات والشروخ التي ازدادت هوتها مع الحرب أكبر دليل على أنها غير مهمة في هذه الحالة، وإذا قلنا الانتماء الوطني، فإن غالبية الشعب لا تعي مفهوم الوطن والمواطنة وإلّا لما وصلوا إلى ما هم عليه من صدوعٍ وانهيارات. وإذا كانت الأيديولوجيا السياسية والأحزاب، فإن سورية افتقدتها منذ عقود، وأصيبت الحياة السياسية بالشلل، ولم تكن الأحزاب الموجودة، والتي تشكل الجبهة الوطنية، أكثر من صورة وهمية وأداة ملحقة بالحزب الحاكم، وواقعة مثله تحت سيطرة الجهاز الأمني، وإذا أردنا ربط الدور بالنقابات، على اختلاف ميادينها، فإنها أيضًا ملحقة بالحزب الحاكم والنظام السائد. فما الذي يجيّش الجماهير بهذه الطريقة الصادمة، ويجعلها تزحف بمئات الآلاف إلى الساحات والشوارع، في وقت تموت معه بالمعنى الواقعي والمجازي؟ إنها الشخصية الامتثالية المسكونة بالخوف أولا وقبل كل شيء، الشخصية التي اشتغلت عليها الأنظمة الشمولية، لتصبح طرائقها في السياسة والحكم مدرسةً في علم النفس الاجتماعي، الأنظمة التي وضعت أسس إنتاج القادة والزعماء القادرين على التجييش الفائق، وأسس إعداد كوادر يتم الاشتغال عليها منذ الطفولة الأولى. وهذا ما نلمسه في كل مشهد من السلوك الجمعي والجماهيري للشعب السوري في كل مناطق النفوذ، كما يمارسه الزعماء والقادة البدلاء عن النظام في الأماكن الخارجة عن سيطرته.
تعب الشعب السوري من حياته كلها، وصار لا يطمح إلى أكثر من أن يدخل في إغفاءة تشبه الغيبوبة تريحه من نزيف حياته
هذه الشخصية الامتثالية، الفردية والجمعية، يجمعها انغلاق الأفق في وجهها، وانعدام إمكانية التغيير نحو الأفضل، أو إمكانية إنتاج حياتها، بالإضافة إلى خيبتها من أداء النخب التي طرحت نفسها ممثلة لطموح الشعب والسعي إلى تحقيق أهدافه، بينما لم تقدّم أي برنامجٍ واعد، ولم تمارس نشاطًا سياسيًّا يرقى إلى مستوى التضحية التي تكبّدها الشعب، ويجمعها أيضًا ما يشبه تداعي قوى المتسابق قبل الخط الأخير بخطوة، لقد تعب الشعب السوري من حياته كلها، وصار لا يطمح إلى أكثر من أن يدخل في إغفاءة تشبه الغيبوبة تريحه من نزيف حياته.
عندما أرى إلى الشعب الفرنسي، ونظائره من الشعوب التي تعيش في دول تحترم مواطنيها، وتقدّم لهم أسباب العيش الكريم، وتبني حكوماتها أجيالًا فعّالة قادرة على الابتكار والإنتاج والحياة، وكيف أن المواطن فيها يشعر بفرديته، وحقه في القرار، ومسؤوليته عن قراره، وكيف يبتهج بعودة الحياة في مدنه وأحيائه اللائقة بعيشٍ من دون منغصّات، فإنني أشعر بالغيرة، نعم أنا أغار من المدن الحيّة.