عندما تستيقظ أوروبا
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عقب انتهاء زيارته للصين، أخيرا، عن ضرورة تخلي أوروبا عن تبعيّتها العمياء لأميركا، كثيرا من عدم الارتياح في الجانب الغربي من المحيط الأطلسي، وهو ما عبّرت عنه مقالات وتصريحات منزعجة في واشنطن. وقد طلب الرئيس الفرنسي من أبناء قارّته ألا يكونوا "تابعين" لأميركا أو الصين، وعدم التكيّف مع أجندة الآخرين في جميع مناطق العالم، أو السير بالسرعة التي يختارها الآخرون. وفي التصريحات نفسها دعا إلى أن يكون "الحكم الذاتي الاستراتيجي" معركة أوروبا المستقبلية، إذا أرادت أن تبني نفسها قطبا عالميا ثالثا.
الجانب المسكوت عنه في تصريحات ماكرون نقده الهيمنة الأميركية على القارّة الأوروبية وعلى قرارات دولها، كما أن اختيار توقيت إصدار ومكان مثل هذه التصريحات عقب زيارته الرسمية للصين، حيث استُقبل فيها بحفاوة بالغة، لم يكن اعتباطيا أو عفويا، فالتحالف العسكري القوي بين أوروبا وأميركا الذي تشكل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحول إلى عبء على الأوروبيين، لأنه أصبح يمزجُ بين التعاون والاستغلال، خصوصا من الجانب الأميركي، وهو ما دفع ماكرون إلى الحديث صراحة وعلانية عن التخلص من التبعية للأميركيين، وحثّ مواطنيه الأوروبيين على الاستيقاظ لبناء قوتهم الدفاعية الذاتية.
فكرة "الحكم الذاتي الاستراتيجي" أو "الاستقلال الاستراتيجي"، التي جاءت في حوار ماكرون ليست جديدة، فقد سبق له أن اقترحها عام 2017، وقوبلت، في البداية، بتردّد كبير في أوروبا، ولا سيما أن بعض دولها، آنذاك، كانت تفقد الاهتمام بقضايا الدفاع، لكن أزمة كوفيد والحرب الروسية الأوكرانية غيرتا الكثير من قواعد اللعبة، وكشفتا طبيعة التهديدات التي تواجه القارّة الأوروبية، فكان لزاما على دول القارّة أن تعيد النظر في الاستمرار بالاعتماد على "قوّتها الناعمة" فقط، وعلى قيمها الحميدة التي لم تعد كافية لها، إذا أرادت أن توجد في عالمٍ يسير على إيقاع التوترات المتزايدة بين بكين وواشنطن.
تحتاج أوروبا اليوم لإعادة صياغة نفسها قوة عالمية ثالثة، إلى السيادة والاستقلال والمرونة
كان يجب انتظار أزمة كوفيد، وما شهدته من صراع على اللقاحات بين الدول الغربية نفسها وبينها وبين الصين، وبعدها الحرب الروسية على أوكرانيا التي أنهكت اقتصاد دول أوروبية كثيرة، ليستيقظ الأوروبيون على هشاشة بنيانهم الداخلي، وبدأت تظهر بوادر هذا الاستيقاظ، وكان التطوّر الأكثر تعبيرا عنه هو ما حدث في ألمانيا التي قرّرت تغيير عقيدتها الدفاعية لتعتمد مستقبلا على قوتها الذاتية في الدفاع عن نفسها وعن قارّتها العجوز، فأوروبا تستيقظ عندما تمسّ مصالحها الاقتصادية، أو عندما يتعلق الأمر بأمنها القومي. ومع التوترات الشديدة التي يعرفها العالم على المستوى الأمني والتداعيات الكارثية للحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي، أصبحت مسألة إعادة البناء الأوروبي تُثار بقوة، ويعتقد أوروبيون كثيرون أن الوقت قد حان لإعادة صياغة دورهم في العالم، وهو شرطٌ أساسي لإيقاظ قارّتهم.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، ظلت أوروبا في وضع جمودٍ بعدما خرجت منهكة من حرب 1945، وممزّقة بين قوتين عظميين، أميركا وروسيا. وعلى مدى العقود السبعة الماضية، انكبّت على تطوير صورة القارّة المتنوّرة، المتسامحة، متعدّدة الثقافات والمنفتحة على الآخر، وهذا ما صنع منها الصورة التي نتحدّث عنها اليوم. صورة أوروبا المتنوّرة والمتسامحة التي تفتح بواباتها أمام المهاجرين من جميع أرجاء العالم، وأساسا من مناطق الأزمات في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، ما أوجد منها كيانا فوق قومي ومتعدّد الثقافات، يطمس بل ويخفي الحدود القديمة التي كانت تجسّد هويات الماضي. لكن هذه الصورة باتت اليوم مهدّدة مع صعود اليمين الشعبوي في أكثر من بلد أوروبي، وأيضا بسبب تزايد ضغط الهجرة على قارّتهم إلى درجةٍ باتت معها بنيتها الديمغرافية مهدّدة بتحوّل كبير. فهل أوروبا التي يتصاعد في دولها مد التيارات الشعبوية الشوفينية المتطرّفة قادرة على إعادة بناء نفسها قوةً عالمية ثالثة؟ وإذا كان "الاتحاد الأوروبي" قد فشل طوال العقود الماضية في بناء كيان موحّد وقويّ قادر على تخطّى السلطة الوطنية للدول الأعضاء فيه، فما الذي يجعله اليوم قادرا على النجاح في ما فشل فيه في الماضي، في زمنٍ عادت فيه فكرة الدولة الوطنية بقوة داخل دوله؟
على أوروبا التخلّي عن أفكارها القومية المتطرّفة القائمة على كراهية الأجانب، والتوقّف عن التفكير بأنها مركز العالم
ما مكّن لأوروبا من إنجاز ثورتها الكونية، نهاية القرن الرابع، يصعُب اليوم تكرارُه، بما أن ثورتها السابقة إنما تحقّقت بفضل سياسات دولها الاستعمارية وحروبها الصليبية وسيطرتها على شعوب دول أخرى واستغلالها مواردها الطبيعية، هذه هي المقوّمات التي صنعت من أوروبا قوة اقتصادية وعسكرية عالمية، لكن التاريخ لا يعيد نفسه، وما كان متاحا ومقبولا بالأمس لم يعد كذلك في عالم اليوم.
تحتاج أوروبا اليوم ثلاثة مقومات أساسية لإعادة صياغة نفسها قوة عالمية ثالثة، السيادة والاستقلال والمرونة، السيادة في اتخاذ قراراتها، وخصوصا ما يتعلق منها بالدفاع عن نفسها، والاستقلال عن أكبر قوتين في العالم، أميركا والصين، لمواجهة خطر هيمنتهما على العالم، والمرونة في التعامل مع باقي دول العالم وشعوبه لإثبات ذاتها قوة عالمية ثالثة في عالم متعدّد الأقطاب. وكما فعلت في الماضي بالتخلص من إرثها الاستعماري الذي كان قائما على السيطرة والاستغلال الاقتصادي للقارّات والشعوب في أرجاء العالم، عليها اليوم التخلّي عن أفكارها القومية المتطرّفة القائمة على كراهية الأجانب، والتوقّف عن التفكير بكونها مركز العالم، لأن هذا ما سيجعل منها قوة عالمية ثالثة ناعمة.