22 يناير 2018
عندما تصبح حقوق الإنسان أيديولوجيا
يعبّر حزب الشعوب الديمقراطي الكردي (HDP)، الجناح السياسي المدني لحزب العمال الكردستاني المسلّح (PKK)، عن إرادة كتلة أهليّة شعبيّة قوميّة كرديّة داخل تركيا، إذْ تتطلّع هذه الجماعة، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، إلى تقرير مصيرها ونيل كرامتها السياسيّة. ولا يخْفَى على المتابع للشأن الداخلي التركي أنّ مزاج هذه الكتلة هو بالضبط من التموضعات السياسيَّة لحزب العدالة والتنمية في صراعات المنطقة، فزعيم حزب "الشعوب"، صلاح الدين ديمرتاش، لم يخف إعجابه بسياسة القيصر الروسي، فلاديمير بوتين، في المنطقة. كما أنّ العلاقة التاريخيّة بين حزب العمال الكردستاني ونظام آل الأسد، والتنسيق الممتد حتّى الآن، لا تخفى على أحد. من ناحية أخرى، لدينا الكتلة الأهليّة الشعبيّة السوريّة المحتجّة ضد نظام آل الأسد العصبوي، والتي لا يوجد أنبل من أحقيّة قضيّتها في تقرير مصيرها أيضاً، وهي مكوَّنة، في غالبيتها، من العرب السنة الريفيّين، والذين يصطفون بسبب تحالفات نظام آل الأسد الخارجية الذي يبيدهم، مع المحور الذي يشكّل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حجر زاويةٍ فيه. فكيف ستحلّ عبارة "حق الشعوب في تقرير مصيرها" هذا الإشكال الواقعي الصارخ المُعَطِّل. أي التضارب بين مزاجي كتلتين أهليّتين، كرديّة قومية داخل تركية، وعربية سنيّة داخل سورية، وبالتالي، بين حقهم في تقرير مصائرهم.
أقرب من ذلك، في إقليم كردستان العراق، ما سيكون رأي مسعود البارزاني والقوميين الأكراد، إذا طالبت الكتلة الأهليَّة القوميَّة الآشوريَّة، أو السريانيَّة، بحقِّها في تقرير مصيرها، والانفصال عن الإقليم الناشئ. أو في سورية حتّى، حيث الأمور أعقد وأكثر دمويَّة، ما رأي دعاة الفيدرالية الكرد، مثلاً، إذا ما طالب العرب المقيمون في منطقة الجزيرة، والذين يشكّلون على الأقل أكثر من ثلث السكان (لا توجد إحصائيّات دقيقة حتّى الآن عن التوزع السكاني في الجزيرة السورية) بحقّهم في تقرير مصيرهم!. تبدو مقولة "حق الشعوب في تقرير مصيرها" باردةً ومسالمة وأخلاقيَّة وُمحايدة، لكنّها من الممكن، وكأي مقولة كونيّة عمومية، أن تضمر الكثير من السلطة الخاصّة، والحس الأهلي، وبالتالي، تصبح أداة في النزاعات السياسيّة والأهلية، كأي أيديولوجيا، بدلاً من أن تكون داءً لها.
نظرة واحدة سريعة فقط، على خريطة سيطرة قوى أمر الواقع في سورية ولبنان والعراق. هذا
الواقع الهلامي الرائق متعدِّد الأشكال والمتداخل الأعماق يردُّ الجملة النظرية لحقوق الإنسان كُلّها على أعقابها. ويصيبها بالشلل والعجز والإطباق. من يدري، ربما القاعدة الاجتماعيَّة الأهليَّة التي يرتكز عليها نظام آل الأسد مقتنعةٌ، في عالمها الداخلي الخاص، بأنَّها تخوض حرباً من أجل حقها في.. "تقرير مصيرها".
اشتُقَّت الجملة النظرية المشهورة لمواثيق حقوق الإنسان، المدغومة بروحٍ ليبراليَّة واضحة، من أوضاع سياسية- اقتصادية- اجتماعيّة خاصّة، في مقطعٍ زماني- مكاني معيّن وخاصّ في التاريخ، وتحديداً في أوضاع أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية. وكأيِّ قانون عام، تنزعُ هذه المواثيقُ الحقوقيّة إلى الكونيَّة التعميميَّة، والصلاحيَّة المعياريّة المطلقة، والنفاذ التنفيذي لأي زمان ومكان. علماً أنّ هذه القوانين انبثقت ترياقاً لاستعصاء اجتماعي- سياسي- اقتصادي خاص. وربما سيكون القانون قد تمكّن، فعلاً، من منع اندلاع الحرب الأهليّة، وحفظ دماء البشر من السيلان في سياقها.
لكن، من ناحيةٍ أخرى، ثمّة عطبٌ بنيويّ أصيل، تعاني منه هذه المواثيق الكونيّة، وذلك لأنّ الأقوال المجرّدة، مثل "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، تعجز، أحياناً، أمام عقدةٍ داميةٍ مركّبةٍ جديدة، تمثلها أوضاع سياسيّة- اقتصادية- اجتماعيّة أخرى، مختلفة تماماً عن تلك الأوضاع التي انبثقت نشداناً لها هذه الجملة النظرية الحقوقيّة المعروفة. حركة التاريخ المتّجهة دوماً نحو التعقيد المستمر والتشابك الدقيق، تصيب هذه المقولات الكونيّة الثابتة بمقتلها في الصميم، وتظهر عجز المعيار أمام تغيّر السياق. السياق ولّد المعيَّار حفظاً لكرامة البشر، لكن لما يتسيَّد المعيار على تغيّر السياق. هنا بالضبط، تُهدَّد كرامة البشر. تفترضُ مواثيق حقوق الإنسان الأخلاقيَّة شكلاً ثابتاً لصراعاتٍ متشابهة، يخوضها البشر في كل زمان ومكان، وهنا مكمنها الأيديولوجي. وهنا بالضبط، أيضاً، تقاطع النص الحقوقي الأخلاقي مع النص الديني الغيبي. فإذا كان الثاني ينطلق من هاجس استنساخ بشر ثابتين، مشدودين للحظة تاريخية سحيقة، فإنّ الأوّل يرتكز على فكرة تشابه الصراعات التي يخوضها هؤلاء البشر في أي وقت. أمّا ما يجعل مصائر الجماعات في تضاربٍ مع بعضها، فهذه مهمّة بحثيَّة جديَّة، لا تتسع مقالة صحافية عابرة لها.
من هنا، يجب أن تفرض النقديّة السياسية المعاصرة، والتي تهجسُ بإعطاء وزنٍ للواقعي والملموس، نقداً عميقاً لهذه المواثيق الحقوقية، لجعلها في حركة تغير مستمرة، كي تكون أداة في تحقيق العدالة في الأنساق الواقعية المتبدلة. لأنّ القوانين من أشكال الاشتراط، أمّا العدالة، فهي قبل القانون، وكما يقول دريدا، هي "غير مشروطة على الإطلاق".
أقرب من ذلك، في إقليم كردستان العراق، ما سيكون رأي مسعود البارزاني والقوميين الأكراد، إذا طالبت الكتلة الأهليَّة القوميَّة الآشوريَّة، أو السريانيَّة، بحقِّها في تقرير مصيرها، والانفصال عن الإقليم الناشئ. أو في سورية حتّى، حيث الأمور أعقد وأكثر دمويَّة، ما رأي دعاة الفيدرالية الكرد، مثلاً، إذا ما طالب العرب المقيمون في منطقة الجزيرة، والذين يشكّلون على الأقل أكثر من ثلث السكان (لا توجد إحصائيّات دقيقة حتّى الآن عن التوزع السكاني في الجزيرة السورية) بحقّهم في تقرير مصيرهم!. تبدو مقولة "حق الشعوب في تقرير مصيرها" باردةً ومسالمة وأخلاقيَّة وُمحايدة، لكنّها من الممكن، وكأي مقولة كونيّة عمومية، أن تضمر الكثير من السلطة الخاصّة، والحس الأهلي، وبالتالي، تصبح أداة في النزاعات السياسيّة والأهلية، كأي أيديولوجيا، بدلاً من أن تكون داءً لها.
نظرة واحدة سريعة فقط، على خريطة سيطرة قوى أمر الواقع في سورية ولبنان والعراق. هذا
اشتُقَّت الجملة النظرية المشهورة لمواثيق حقوق الإنسان، المدغومة بروحٍ ليبراليَّة واضحة، من أوضاع سياسية- اقتصادية- اجتماعيّة خاصّة، في مقطعٍ زماني- مكاني معيّن وخاصّ في التاريخ، وتحديداً في أوضاع أوروبا بعد الحرب العالميّة الثانية. وكأيِّ قانون عام، تنزعُ هذه المواثيقُ الحقوقيّة إلى الكونيَّة التعميميَّة، والصلاحيَّة المعياريّة المطلقة، والنفاذ التنفيذي لأي زمان ومكان. علماً أنّ هذه القوانين انبثقت ترياقاً لاستعصاء اجتماعي- سياسي- اقتصادي خاص. وربما سيكون القانون قد تمكّن، فعلاً، من منع اندلاع الحرب الأهليّة، وحفظ دماء البشر من السيلان في سياقها.
لكن، من ناحيةٍ أخرى، ثمّة عطبٌ بنيويّ أصيل، تعاني منه هذه المواثيق الكونيّة، وذلك لأنّ الأقوال المجرّدة، مثل "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، تعجز، أحياناً، أمام عقدةٍ داميةٍ مركّبةٍ جديدة، تمثلها أوضاع سياسيّة- اقتصادية- اجتماعيّة أخرى، مختلفة تماماً عن تلك الأوضاع التي انبثقت نشداناً لها هذه الجملة النظرية الحقوقيّة المعروفة. حركة التاريخ المتّجهة دوماً نحو التعقيد المستمر والتشابك الدقيق، تصيب هذه المقولات الكونيّة الثابتة بمقتلها في الصميم، وتظهر عجز المعيار أمام تغيّر السياق. السياق ولّد المعيَّار حفظاً لكرامة البشر، لكن لما يتسيَّد المعيار على تغيّر السياق. هنا بالضبط، تُهدَّد كرامة البشر. تفترضُ مواثيق حقوق الإنسان الأخلاقيَّة شكلاً ثابتاً لصراعاتٍ متشابهة، يخوضها البشر في كل زمان ومكان، وهنا مكمنها الأيديولوجي. وهنا بالضبط، أيضاً، تقاطع النص الحقوقي الأخلاقي مع النص الديني الغيبي. فإذا كان الثاني ينطلق من هاجس استنساخ بشر ثابتين، مشدودين للحظة تاريخية سحيقة، فإنّ الأوّل يرتكز على فكرة تشابه الصراعات التي يخوضها هؤلاء البشر في أي وقت. أمّا ما يجعل مصائر الجماعات في تضاربٍ مع بعضها، فهذه مهمّة بحثيَّة جديَّة، لا تتسع مقالة صحافية عابرة لها.
من هنا، يجب أن تفرض النقديّة السياسية المعاصرة، والتي تهجسُ بإعطاء وزنٍ للواقعي والملموس، نقداً عميقاً لهذه المواثيق الحقوقية، لجعلها في حركة تغير مستمرة، كي تكون أداة في تحقيق العدالة في الأنساق الواقعية المتبدلة. لأنّ القوانين من أشكال الاشتراط، أمّا العدالة، فهي قبل القانون، وكما يقول دريدا، هي "غير مشروطة على الإطلاق".