عندما تُربكنا زوجة هنيبعل القذافي
تورِّطنا السلطة الرسمية في سورية في حيص بيص، إذا أردنا أن نكون موضوعيين. ونحن، العاملون في الصحافة وتعاليقها، مطالبون بأن نكون كذلك، بل بأن نكون حنبليين في توسّل الموضوعية والحقيقة المؤكّدة في أي شأن. والورطة هنا أن واقعةً حدثت في دمشق يوم 24 الشهر الماضي، تخصّ زوجة هنيبعل القذافي، نجل رئيس ليبيا المقتول، اللبنانية إلين سكاف، والتي تقيم في سورية بصفة "لاجئة سياسية" (!). للواقعة روايتان، واحدة يتبنّاها ويشيعها معارضو نظام الأسد وكارهوه (ونحن منهم)، وموجزها أن المذكورة، بينما كانت تقود سيارتها ليلا، متهوّرة وثملة (أو مخمورة لمن أراد فصحى أقلّ)، في حي المزّة في دمشق، دهست شرطيين وثلاثة مدنيين، بينهم طالبة جامعية توفيت لاحقا في المستشفى. وردّ مرافقون لها على عناصر من الشرطة أرادوا توقيفها بالسباب، حتى قَدِم مسؤولٌ متنفّذ، أجاز لها الذهاب من المكان، وأوقف أي مساءلةٍ لها. أما الرواية الأخرى فتُنسب إلى مدافعين عن السيدة، ومحبين لنظام الأسد. ومن هؤلاء "فريق الدفاع عن الكابتن هنيبال القذافي وزوجته إلين مانطنيوس سكاف"، نُشرت رسالةٌ باسمهم يوجهونها إلى الرئيس بشار حافظ الأسد (هكذا)، ويضمّنونها تفاصيل مختلفة، لا دهس فيها أبدا، وإنما تعمّد شرطي مرور افتعال مشكلة، ونيته اعتقال نجل السيدة إلين وعمره 15 عاما (لها ثلاثة أولاد بالمناسبة)، وذلك بعد استجابتهما لمّا طُلب منهما إبراز هويتيهما، وذلك عندما كانت توقف سيارتها بانتظار تسلّم أغراضٍ اشترتها. ولمّا كانت الرسالة طويلةً (غير مملّة) يتعذّر هنا إيجاز كل ما فيها.
ماذا نصنع نحن أهل الصحافة، وفي أعرافنا أننا لا يحسُن أن نكتفي ببسط روايتين متضادّتين عن واقعةٍ واحدة، إذ يجدُر الإتيان بمصدر يؤكّد واحدة منهما أو يغلّبها، أو بروايةٍ ثالثةٍ مقرونةٍ ببراهين قاطعة. والورطة في حالة زوجة هنيبعل القذافي (ما أخباره مسجونا في لبنان؟) أن وسائل التواصل الاجتماعي هي مصدر ما جاء أعلاه، ومعروفٌ أن "تويتر" و"فيسبوك" وغيرهما تعجّ بالصحيح وغير الصحيح (نُشرت صور وأقوال شهود عيان). ولأننا أهل صحافة، ولسنا ناس قيلٍ وقال، فإن من مألوف عملنا أن نولي ما تقوله السلطات المختصة في حوادث مثل هذه الأهمية والاهتمام، غير أن الجهات الرسمية في دمشق (وزارة الداخلية مثلا) لم تُفصح عن شيء، عن تحقيقٍ، أقلّه بشأن الفتاة التي أفيد بأن كنّة معمّر القذافي قتلتها دهسا، إنْ كان هذا صدقا أم غير صدق، فقد نُشر اسمٌ وصورةٌ للفتاة، وأقوالٌ عن موتِها متأثرة بالدهس، إلا أنه نُشر أيضا عن والدها قوله إنها توفيت (في مستشفى آخر!) لتعرّضها لأزمةٍ قلبيةٍ. .. أيّ حيصَ بيصَ نحن فيه إذن؟
هل نأخذ بقياس الشاهد على الغائب، وإنْ هذه قاعدةٌ يأنس إليها الفقهاء، فيما نحن صحافيون، فنقول إن ما ذاع إن عارضة الأزياء السابقة فعلته في الحي الدمشقي يقبل التصديق، فهي زوجة شخصٍ كان مهووسا بنفسه وعنجهيا، وحدث أن الشرطة في جنيف أوقفته (ومعه زوجتُه هذه)، قبل 12 عاما، بعد شكوى من خادم مغربي وخادمة تونسية قالا إنهما تعرّضا للضرب والإهانة منهما. وأن الفساد في دواليب السلطة في سورية يجيز سوء الظن، والأخبار تحكي إن الزوجة هذه "مدعومةٌ جدا" من نافذين في هذه السلطة، في وسعهم أن ينقذوها من أوجاع رأس في مساءلاتٍ كما التي قد تحدُث معها في سين وجيم بشأن فعلة الدهس تلك في حالة سُكر. ومما يسلّح تصديق الواقعة بالوجاهة صمتُ السلطة بشأنها، دلالةً، على الأرجح، على دفع حرجٍ ما، عندما ستعمد إلى كذبٍ بيّن. ولكن أكثر ما يرجّح ما خاض فيه كارهو نظام الأسد (جرت الإشارة أعلاه إلى أننا منهم)، قول فريق الدفاع عن إلين سكاف وبعلها، في الرسالة التي نسب أنهم أرسلوها إلى الأسد، إن أهل "التغطية الإعلامية المضلّلة" للحادث، في وسائل التواصل الاجتماعي وقنواتهم التلفزيونية، و"أغلبها تابع للإعلام المعارض للنظام"، إنما يحاولون "استغلال هذا الحادث المدبّر والمفتعل لكي ينالوا من سوريا الصمود وقيادتها العظيمة، وشعبها الذي لا تنطلي عليه الفبركات، لأنه طيلة هذه السنوات وهو يكشف المؤامرات والفبركات المشابهة لهذه الواقعة". وكان كاتبو هذا الكلام قد جاءوا، في مطلع رسالتهم، على مواجهة "سوريا الصامدة الأبية المؤامرة الكونية منذ عشر سنوات" ... إذن، طالما أن القول هو هذا القول، فالراجح، والله أعلم، أن زوجة هنيبعل القذافي اقترفت ما قرأنا.