عندما يبكي المسؤول العربي
تأخذنا دموعٌ غالَبها الوزير الأول (رئيس الوزراء) الجزائري، أيمن بن عبد الرحمن، الأسبوع الماضي، وهو يردّ، في بيانٍ عرضه أمام مجلس النواب في بلادِه، على أسئلةٍ بشأن عدم توفّر سلعٍ ضروريةٍ للمواطنين، ونقصان قدرتهم الشرائية، تأخذُنا إلى دموعٍ أخرى سحّت، أو كادَت، من عيون مسؤولين عربٍ، كان بعضُهم، في أثنائها، يفيضون بتعاطفٍ غزيرٍ مع مواطنيهم في مشقّتهم المعيشية، على ما رأينا دمعات نجيب ميقاتي، قبل عام، عندما أعلن أسماء وزراء حكومةٍ صار يتولّى رئاستَها في لبنان، لمّا جاء على معاناة أبناء بلده، في غضون أزمة توفّر الأدوية. وهذا بن عبد الرحمن يُعلن، أمام كاميرات التلفزة ونوّاب الشعب، إنه يتقدّم "باعتذارٍ لكل ربّ بيتٍ وربّة بيتٍ وجدوا صعوبةً في الحصول على بعض المواد واسعة الاستهلاك". ويستغرب واحدُنا أن تعرف الجزائر أمرا كهذا، بل ومن أن الحكومة تتّهم "مُضاربين" بالمسؤولية عنه، فتتوعّدهم النيابة العامة بإجراءاتٍ صارمة، فيما يُعلن رئيس الحكومة أن "الدولة ستضرب بيدٍ من حديدٍ كل من تسوّل له نفسُه اللعب بقوت الجزائريين". والظاهر أن المسؤولين الجزائريين (وزير العدل مثلا)، عندما يشدّدون على أن "جماعاتٍ منظمّةً" تحاول ضرب استقرار الدولة، وكذا "القدرة الشرائية" للمواطنين، فإنهم يرمون عن أنفسهم أي مسؤوليةٍ عن تقصيرٍ أو سوءِ إدارةٍ وتخطيطٍ بشأن نقصان موادّ أساسيةٍ (الزيت والحليب وبعض الأدوية، مثلا)، وقد استفاض أيمن بن عبد الرحمن في شرح ما تعمل عليه حكومته لحماية القدرة الشرائية للمواطن الجزائري، وجاء في كلامه، بعد حبسِه دموعا كادت تطفرُ من عينيه، وقوبلت بتصفيقٍ من مستمعيه النوّاب، إنه لا يقصد "التبرير"، وإنما "يقدّم توضيحات". .. على غير حال المسؤول الجزائري الرفيع، كان وزير الدولة للنفط في السودان سابقا، سعد الدين البشري، أكثر صراحةً، لمّا ذرف دموعا حارّةً أمام البرلمان (أيضا)، في العام 2018 (إبّان عمر البشير، إذن)، بسبب عجز وزارته عن معالجة أزمة وقودٍ كانت قد استجدّت في البلاد.
ومع التسليم بأن من طبيعيّ الأمور أن في المسؤول العربي في مواقع حكومية متقدّمة مشاعرَه الإنسانية الخاصة، ويعبّر عنها في تعاطفٍ مع مرضى ومحتاجين وفقراء ومعوزين، فإن لسائلٍ أن يسأل ما إذا كانت حالُه، وهو في مشهدٍ كهذا، تُسعفُه في تظهير صورتِه أمام مواطنيه واحدا منهم، أو أن المسافة بينهم وبينه قصيرة، يكابد مثلهم ما يكابِدون من عنتٍ في هذا الأمر وذاك، أم إنها سحابةٌ عابرةٌ تمضي في لحظتها، فلا يُبقي لها أثرا بقاءُ الأوضاع الصعبة (تحدّث عنها ميقاتي)، وبقاءُ القدرة الشرائية على ضعفها (وإنْ يحارب هذا أيمن بن عبد الرحمن)؟ ووجاهة السؤال هنا أن المسؤول صاحبُ ولايةٍ عامة، وليس داعيةً أو خطيبا في تجمّع سياسيٍّ معارض، أو أكاديميا في ندوةٍ، بل هو الذي يُساءَل، بناءً على حيثيّته، عن نفع التدابير والإجراءات التي توقِف الحالة التي جعلته يغالِب دموعَه، فيقدِر عليها (دموعَه) كما صنع أيمن بن عبد الرحمن في الجزائر، ولا يقدِر عليها كما شوهد نجيب ميقاتي، وتقدِر عليه كما صار مع ذلك الوزير السوداني.
والظاهر أنها حالاتٌ معدودةٌ يُعايَن فيها المسؤول العربي يبكي، أو تدمع عيناه، تعاطفا مع مواطني بلده في غضون أحوال معيشةٍ صعبةٍ أو عدم توفر سلع وأدوية، فيما هي حالاتٌ كثيرةٌ شوهد فيها مسؤولون عربٌ يبكون، أو يدمعون، تأثّرا بما قد يجيش فيهم من مشاعر إنسانيةٍ أو وطنيةٍ، وغالبا ما يستقبل الجمهور العربي العام مشاهدَهم هذه بقلة اكتراثٍ أو تندّرٍ أو تشكّكٍ أو باعتبارها "دموع تماسيح". ولأن ربّ البريّة وحده علّامُ الغيوب، وعلّامٌ في الحشايا والأنفس، يصير الأوْلى أن يرى مشاهدَ كهذه في حدودها، وإنْ عصيٌّ على بعضِهم أن لا يتذكّروا دموعا غالَبها وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في مأتم شيمون بيريز، لمّا شاهدوا دموعَه عند عزف النشيد الوطني المصري في باريس. وأيضا عندما يتساءلون بشأن فائض مشاعر الإخلاص والوفاء التي ندّت عنها دمعاتُ عبد الفتاح السيسي، وهو يتحدّث للمصريين، في افتتاح مصنع كيماوياتٍ، قبل سنوات، عن رغبتِه في أن يعمل "كل حاجة حلوة" لهم، فالشعب المصري "يستاهل كل خير".
كان بكاء الرجال، الملوك والقدّيسين والأبطال والقادة (والعشّاق) كثيرا، قبل أن يخفّ لاحقا، منذ القرن التاسع عشر أو قبله بقليل، لمّا صار مستهجنا في المدن، على ما أسهَب في التوضيح باحثٌ غربيٌّ في كتابٍ له، عنوانُه الفرعي "التاريخ الثقافي والاجتماعي للدموع". وها نحن نستقبل البكاء، من غير مسؤولٍ عربيٍّ بالاستفهام والسؤال.. وبالعجب ربما.