عندما يتجدّد في تونس جدل مستقبل حركة النهضة
بعد ما يزيد عن عشرة أشهر من اعتقاله ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي، أصدرت محكمة تونسية في حقّ رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي حكما بالسجن ثلاث سنوات مع غرامة مالية تفوق المليون دولار، بعد "إدانة" حزبه بتلقي أموالٍ أجنبية لإبرام عقد خدمات مع شركة أميركية للعلاقات العامة (لوبيينغ) لتعزيز حظوظ حركة النهضة في الفوز بالانتخابات التشريعية لسنة 2019. لم يحضُر الغنوشي جلسة المحاكمة لقرار سابق أخذه بمقاطعة كل المسار القضائي الذي يتعرّض له وقيادات أخرى من حزبه منذ بواكير ما بعد 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، تاريخ إعلان الرئيس قيس سعيّد الإجراءات الاستثنائية وإغلاق مقر البرلمان وإقالة الحكومة ووقف الديمقراطية الناشئة في تونس. ويؤسّس الغنوشي موقفه هذا على اعتبارين، سبق أن صرّح بهما محاموه غير مرّة، الأول أن ملفّه وملفّ حزبه سياسيان وليسا أمنيين أو قضائيين، وأن سجنه قرار سياسي بالأساس، الثاني رفضه التنكيل به في مسار قضائي مفتوح تتوالد فيه التهم والاتهامات بناء على ملفات فارغة.
بعد أيام قليلة من صدور هذا الحكم، انطلقت يوم 6 فبراير/ شباط الجاري جلسات الاستماع والمرافعات في قضية اغتيال الناشط السياسي شكري بلعيد (6 فبراير/ شباط 2013)، التي تتهم فيها هيئة الدفاع عن شكري بلعيد حركة النهضة بالضلوع في هذا الاغتيال السياسي، توفيراً لمناخاته وتيسيراً لارتكابه وتستّرا على مدبّريه ومنفذيه. وأعادت هذه التطورات القضائية الجدل في الفضاء العام السياسي والإعلامي في تونس بشأن مستقبل حركة النهضة. ورغم أنها ليست جديدة، وربما غير مفاجئة، حيث سبق نشرها والتحقيق فيها منذ سنوات، تبدو هذه التطوّرات من منظور بعض المتابعين خطيرة في هذه الظرفية الراهنة التي تمر بها تونس على كل الأصعدة.
الجديد في الموضوع ما يدور من أحاديث بشأن المدى الأوسع الذي يمكن أن تذهب فيه سلطة الرئيس قيس سعيّد في علاقتها بحركة النهضة، والسؤال هو هل تمهّد هذه المستجدات القضائية وما قد يلحق بها من تطورات أخرى إلى حلّ حزب حركة النهضة وتجميد نشاطه، بحجّة مخالفته المرسوم المنظّم للأحزاب السياسية الذي يمنع الأحزاب من تلقّي تمويلات أجنبية؟
يؤكّد قادة "النهضة" أن حزبهم لا يزال الرقم الأهم في الحياة الحزبية والسياسية التونسية، رغم ما تعرّض له ولا يزال منذ "25 جويلية" من تضييقات وملاحقات، وصلت إلى حدّ إغلاق مقرّه المركزي ومقارّه المحلية والجهوية واعتقال رئيس الحزب وزعيمه راشد الغنوشي وثلاثة من نوابه ورئيس مجلس الشورى الوطني وعدة قيادات، إضافة إلى قيادات جهوية ومحلية.
يؤكّد قادة "النهضة" أن حزبهم لا يزال الرقم الأهم في الحياة الحزبية والسياسية التونسية، رغم ما تعرّض له ولا يزال منذ "25 جويلية" من تضييقات وملاحقات
يرى النهضويون كل ما لحق بالحركة من إجراءات تعسّفية في حقهم، وأربكها ونال جزئيا من قدرتها على العمل والتعبئة، لكن معطيات الواقع تؤكّد أن المؤسّسات القيادية لها (المجلسان التنفيذي والشورى الوطنيين) تواصل عملها من دون انقطاع في إدارة أوضاع الحزب من جهة والتحرّك من موقع الفاعل السياسي المسؤول، من جهة أخرى، إبداء للمواقف والتصريحات من مختلف القضايا الوطنية والإقليمية والدولية، ومشاركة في الفعاليات والتحرّكات الميدانية الدورية أو المناسباتية التي تنظّمها جبهة الخلاص الوطني، وتجسيرا للعلاقات مع ما أمكن من الفاعلين السياسيين المعارضين سياسات الرئيس قيس سعيّد ونهجه في إدارة البلاد.
مرّة أخرى، تؤكّد حركة النهضة قدرتها على استدامة حضورها ونشاطها في كل الوضعيات التي تمرّ بها، حتى الصعبة منها المحفوفة بالعديد من التضييقات الأمنية والملاحقات القضائية ضمن مناخ عام يسود البلاد، تراجع فيه كثيرا منسوب الحقوق والحرّيات، خصوصاً منها حرية التعبير بفعل المرسوم رقم 54، وتوسّعت فيه الملاحقات والاعتقالات بين رجال الأعمال والصحافيين والمدوّنين والنشطاء السياسيين والمدنيين، فقد أدركت قيادة "النهضة"، منذ 25 جويلية 2021، أنها أصبحت أمام معادلة دقيقة، طرفها الأول المحافظة على كيانها حيّاً، منسجما وفاعلا، وطرفها الثاني بذل الوسع في معارضة سياسة قيس سعيّد والعمل على استعادة الحالة الديمقراطية وشرعية الثورة ودستورها ضمن عمل جبهوي يجمع أكثر ما يمكن من القوى الديمقراطية المعتدلة إطاره جبهة الخلاص الوطني.
يعتبر الموقف السلبي من الأحزاب ومنظمّات المجتمع المدني جزءاً من الفكرة السياسية لقيس سعيّد، وهي التنظيم القاعدي التي تقوم على التمثيل الشعبي المباشر بديلا عن الديمقراطية التمثيلية
تبدو قيادة حركة النهضة موفقة إلى حدّ كبير في التعامل مع هذه المعادلة الدقيقة، وفي بناء حالة تنظيمية مكّنتها من المحافظة على قدرٍ غير قليلٍ من أرصدتها البشرية والرمزية، وحالة سياسية "مريحة نسبيا" مكّنتها من التموقع الفاعل في مشهد سياسي يواجه، بشكل عام، تحدّيات وصعوبات ثقيلة وتواجه فيه حركة النهضة، إضافة إلى ذلك حالة من الشحن ضدّها ودعوات إلى حلّها وتفكيكها بناء على سردياتٍ تحمّل "النهضة" كل عثرات العشرية السابقة، وتتهمها بالضلوع في كل الملفات الخطيرة، مثل التسفير والاغتيالات السياسية.
ليس مستبعدا أن يكون تزامن الحكم على الغنوشي بثلاث سنوات سجن مع انطلاق جلسات الاستماع والمرافعات في قضية اغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد مؤشّرا على مرور سلطة قيس سعيّد إلى السرعة القصوى في علاقته بحركة النهضة، قد تفتح على تجريمها أولا ثم حلّها وإنهاء وجودها حزباً سياسياً قانونياً، ثانيا. فقد سبق لسلطة قيس سعيّد في مناسبتين سابقتين أن استثمرت ذكرى اغتيال بلعيد، مرّة لحل المجلس الأعلى للقضاء وعزل 57 قاضية وقاضياً، بينهم رئيس المجلس وقضاة يشغلون مناصب عالية بعد اتهام المجلس بالتستر على الإرهاب وتعطيل المسار القضائي، ومرّة ثانية لاعتقال قادة سياسيين عديدين بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، والتخابر مع جهات خارجية.
لا يُخفي الرئيس التونسي موقفه السلبي من الأحزاب، وما يسميها الأجسام الوسيطة عامة، مثل الجمعيات والمنظمّات، فلا مكان في فكره وفي منظومته للحكم للأحزاب، التي ليست في منظوره سوى كيانات وفضاءات لا ترى في العمل السياسي وفي الحكم سوى غنيمة ومطية للدفاع عن مصالح فئات معينة. وعليه، ما يتهدّد حزب حركة النهضة من احتمال حلّه وتفكيكه يهدّد أيضا كل الأحزاب الأخرى من مختلف العائلات السياسية، كما يهدّد أيضاً كل جمعيات المجتمع المدني، فقد أفادت تقارير عديدة بأن مصالح الإدارة العامة للأحزاب السياسية والجمعيات برئاسة الحكومة قد بدأت في أخذ إجراءات بتصفية أحزاب وجمعيات عديدة، بناء على ما تراه من إخلالات إجرائية أو مالية.
ما يتهدّد حزب حركة النهضة من احتمال حلّه وتفكيكه يهدّد أيضاً الأحزاب الأخرى من مختلف العائلات السياسية
يعتبر هذا الموقف السلبي من الأحزاب ومنظمّات المجتمع المدني جزءاً من الفكرة السياسية للرئيس قيس سعيّد، وهي التنظيم القاعدي التي تقوم على التمثيل الشعبي المباشر بديلا عن الديمقراطية التمثيلية التي تقوم على تنافس الأحزاب في تمثيل الشعب. وشهدت الاستحقاقات الانتخابية التي شهدتها البلاد بعد "25 جويلية" غياب الأحزاب السياسية الكبرى التي اختارت مقاطعة الانتخابات لأسباب عديدة، منها القانون الانتخابي الذي لا يمنح أي شيءٍ تقريبا للأحزاب للمنافسة بقدر ما فتح أمامها أبواب الخروج من المشهد الانتخابي خصوصاً والمشهد السياسي عموماً.
ضمن هذا المشهد السياسي العام وسياقاته، لا يبدو أن حزب حركة النهضة هو المستهدف الوحيد بالحلّ والتفكيك، رغم أنه قد يكون الأول الذي يطاوله هذا الإجراء، وإنما الأرجح أن تلحق به أحزاب ومنظمّات أخرى تراها سلطة الرئيس قيس سعيّد عقبة أمام تنفيذ أجندتها السياسية مكتملة غير منقوصة "لتغيير وجه تونس ودخولها التاريخ باعتبارها نموذجا ناجحا للتمثيل أو البناء القاعدي، الذي يلعب فيه الرئيس دورا محوريا يكون فيه الممثل والمعبّر الوحيد عن إرادة الشعب".
لن يتوقف نهم سلطة قيس سعيّد عند حدود تصفية حزب حركة النهضة، لأنها ترى فيه خصما عنيدا وكيانا راسخا، وإنما سيسعى إلى التوسّع في تصفية كل الأحزاب والأجسام الوسيطة التي لم تقبل إجراءاته وتعارض سياساته، فهل سيكون توجّه السلطة نحو حلّ حركة النهضة موقظا للأحزاب السياسية ومحرّكا لها نحو التقارب أكثر والتضامن المبدئي من أجل الدفاع عن حق النهضة وكل الأحزاب في التنظم؟ هل ستستحضر الأحزاب المختلفة مع "النهضة" درس بداية تسعينيات القرن الماضي، عندما ساند بعضها بكل حماسة سياسة الرئيس زين العابدين بن علي في استئصال حركة النهضة، لتكتشف بعد مدة أن الدائرة قد دارت عليهم، وأنهم قد أكلوا يوم أكل الثور الأبيض؟ هل غاب عن سلطة قيس سعيّد أن "النهضة" التي جرى تغييبها في السجون وفي المنافي أكثر من عقدين من حكم بن علي لم تندثر، وإنما حافظت على ديمومتها وعادت أكثر قوة وصلابة مع ثورة الحرية والكرامة وبعدها؟
"التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولكن في باطنه نظر وتحقيق" (ابن خلدون).