عندما يتعالَم عليك فيلمٌ فلسطيني
أخبرَنا المخرج الفلسطيني، كمال الجعفري (1972)، نحن الذين شاهدْنا له في ركن العرض السينمائي في متحف الفن الإسلامي في الدوحة، "الفيلم عمل فدائي"، ضمن عروض "قمرة" الأسبوع الماضي، بأنه صنَع فيلمه، الوثائقي التوثيقي، هذا، في أثناء العزْل المنزلي إبّان جائحة كورونا، وبعد أن قرأ مقالةً في "النيويورك تايمز" عن الأرشيف الفلسطيني. ولمّا كان الفيلم يجمع صوراً ولقطاتٍ من أراشيف إسرائيليةٍ وفلسطينيةٍ، فإن هذا القول قد يأخُذ سامعَه إلى أن المخرج المجتهد أنفق وقت حبْسه الاضطراري بسبب الفيروس في جمع هذه الصور واللقطات، وتواصَل مع غير جهةٍ من أجل هذا، وأن ذلك المقال (ماذا فيه بالضبط، وفي الصحافات العربية كثيرٌ مفيدٌ عن الأرشيف الفلسطيني؟) حثّه على إنجاز هذه الفكرة. وقد بدا أن الرجل نجحَ في الذي أرادَه، سيّما أن أزمنة هذه المواد المصوّرة والفيلمية العتيقة امتدّت منذ ما قبل النكبة في 1948 إلى ما بعد اجتياح بيروت في 1982. وبدا، أيضاً، أن مُرادَه من صنيعه هذا أن يُحيل المشاهد إلى ما يقيم في الذاكرة الفلسطينية من وقائع تتالَت، البقاء في الوطن والطرد منه، الغزو الإسرائيلي الاستيطاني بالهجرات الأولى ثم في غير حربٍ وعدوان، المدينة الفلسطينية الحيّة منذ بواكير القرن الماضي، القدس ويافا وغيرهما. وقد جالت عيونُنا في أزمنةٍ وأمكنةٍ عديدةٍ في فلسطين ولبنان (والأردن ربما).
تعمّد المخرج المقيم في ألمانيا أن تغيبَ عن الصور أيُّ إشارةٍ إلى أمكنِتها وأزمنتها. يكفي أن تشاهد صورةً من مدينةٍ ساحليةٍ، فلسطينيةٍ على ما عليك أن تؤكّد لنفسك، ثم لك أن تخمّن إن كانت حيفا أو عكّا أو يافا. يكفي أن تشاهد سيّدةً تتحدّث عن زوجها الذي اغتيل بفعلةٍ إسرائيلية إلى صديقٍ لهما، من دون أن تعرف من هو ومن هي ومن تُحاور وأين ومتى. وباستثناء صور معدودة تُفصح عن نفسها، أو يعرّفك المتحدثون فيها عمّ يتكلمون، لا يُسعفك شيءٌ في أن تتعرّف بالضبط على ما هو قدّامك من صور. ويحدُث أن تكونَ في غير حاجةٍ إلى هذا، فالقدس العتيقة مشهورة، والناسُ الذين تشاهدهم يتحرّكون في شوارع وأزقة فلسطينيون لا شكّ، من لباسهم وتفاصيل ظاهرة تتعلّق بهم. غير أن كمال الجعفري تعمّد تظهير الشطب الذي أجراه لزمن الصورة الفيلمية المستلّة من أرشيفٍ ما ومكانها، فضلاً عن أنه ضنّ على مشاهدي ما جمع من لقطات وصور (بعضُها مشهورٌ وميسورٌ وبعضٌ آخر نادرٌ جدّاً) التأشير إلى مصادر هذه المواد، من أين حازها أو توفّر عليها.
لماذا فعل كمال الجعفري هذا؟ ما مقصدُه؟ ما الذي أراد أن يوصلَه إلى من يشاهد فيلمه الذي أعطاه اسماً مصطنعا؟ أيُّ جهدٍ فدائيٍّ في هذا الفيلم بالضبط، مع كل الاستسهال البادي فيه، وإنْ ثمّة اجتهادٌ حسنٌ في توظيفات موسيقياتٍ وأغنياتٍ سيّما عند تقابلات بين مشهدياتٍ فلسطينيةٍ وأخرى إسرائيلية؟ ما الذي كان سيخرَب في الدنيا لو عرّفنا المخرج بأن زوج السيدة التي كانت تتحدّث في بيروت عنه هو السينمائي الشهيد هاني جوهرية، وإنها كانت تتحدّث إلى المخرج الراحل مصطفى أبو علي؟ هل يعتقد أنه فعل تجديداً لم يصنَع مثله أحدٌ قبله، عندما "قصد" تجهيل موادّه الفيلمية التي "تعمّد" أن تتابَع أمامنا، نحن مشاهدي الفيلم، من دون اتّساقٍ زمنيٍّ خطّي، فقد ترى مشهداً في القدس من الثلاثينيات ثم يليه آخر من بيروت 1982 ثم مشهد من أجواء النكبة في نهاية الأربعينيات، ثم ...؟
مرجّحٌ أن لدى كمال الجعفري إجاباتِه عن هذه الأسئلة (وغيرها) أو عن بعضها، غير أننا لم نعرفها بعد، ونظنّه قادراً، كما أغلبُ المثقّفين، على تسويغ خياراتِه بمقولاتٍ عن التلقّي والرؤية وبلاغة المونتاج وغير ذلك مما قد يُتقِن أهل الفن قولَه أو الكلامَ فيه، سيّما من ذوي الاطّلاع والثقافة الخاصّة في النقد الفني. ولكن، لم لا نبقّ البحصة، ونقولها بغير المشفّر، إنه التعالُم الذي يمارسه فنانون وأدباء بشيءٍ من فوقيةٍ على الناس مرفوضة، ولدى بعضهم، للحقّ، جدارة إبداعية ظاهرة. التعالُم الذي يجعل مخرج فيلمٍ عن فلسطين يُتعِب مشاهديه، فيما له (المخرج) هذا إذا سوّغتهُ اعتباراتٌ جماليةٌ أو اقتضاه إيحاءٌ وتكثيفٌ ورهافةٌ في التناول والمقاربة. ويعلم صاحبُ هذه السطور أن للمبدع مساحاتِه الخاصة في التخييل وفي الخيارات الفنية وفي مفرداته التعبيرية، غير أن هذا لا يعني أبداً التشاطر الذي يقدّم لك صوراً متتالية في فيلم وثائقي لا يُراد لك أن تعرف فيه ما الذي تراه.
كان في وُسع كمال الجعفري أن يصنَع فيلماً أوْقَع، وأكثر إقناعاً في مُرسلته، وأكثر توفيقاً في اسمِه أيضاً.