عندما يخضع القضاء العراقي لسلطان السياسة
ليس لك، وأنت تتابع ما يجري في العراق في هذه الأيام، سوى أن تضحك أو تبكي، والأمر سيّان، ما دام القضاء هناك يخضع لسلطان السياسة، وما دام القانون غائباً عن كل صعيد، وما دام رجال القضاء قد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدواتٍ في أيدي "الحيتان" والأفّاقين ورجال المليشيات، وليس أكثر إيلاماً من أن يسقط هذا المرفق المهم تحت أقدام السياسيين، وفي سبيل تحقيق مآربهم الخاصة.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فلا بد من أن نذكر هنا بالخير رئيس وزراء بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل، الذي أصبحت مقولته مثلاً، وهو يتأمل الدمار الذي حل ببلاده: "لا تقلقوا على بريطانيا ما دام القضاء بخير"، وأيضاً الجنرال شارل ديغول الذي سأل عن حال القضاء ساعة دخوله باريس بعد تحريرها من الاحتلال النازي، وعندما قيل له إن القضاء الفرنسي لم يفقد نزاهته بعد، التفت إلى وزيره الروائي والمفكر أندريه مالرو، ليقول له "نستطيع إذن أن نبدأ الآن معركة بناء فرنسا من جديد".
ارتضى رجال القضاء لأنفسهم أن يكونوا أدواتٍ في أيدي "الحيتان" والأفّاقين ورجال المليشيات
ونستذكر تاريخ "بلاد النهرين" منذ العهد السومري، ونقرأ أن رجاله ابتكروا القوانين التي تقيم العدل وتحقق المساواة ابتداء من إصلاحات أوركاجينا وقوانين نمرود ثم قانون أشنونا الذي يعد أقدم الشرائع في تاريخ البشر، وصولاً إلى قوانين حمورابي التي شكلت البداية نحو توجّه دول العالم لإرساء نظام قانوني عادل وقضاء مستقل.
ونسترجع أيضاً عهد الملوك الذين حكموا العراق منذ عشرينيات القرن المنصرم، حيث نلمس اهتمام النخبة السياسية آنذاك بالقضاء والسعي إلى إشاعة مبدأ استقلاليته عن أية مؤثرات، وعدم التدخل في أحكامه. وفي حينه، أرسي تقليد مهم، عندما وضعت لوحة خلف مقعد القاضي، كتبت عليها الحكمة التي قال بها ابن خلدون "العدل أساس الملك"، للدلالة على أن بناء المجتمعات والدول يبدأ من القضاء الذي يقيم العدل، ويحقّ الحق، ويقتصّ من المجرمين، وإذا كانت الجمهوريات التي خلفت عهد الملوك قد شهدت، على نحو أو آخر، انتهاكات فظة في ميدان القضاء في أكثر من قضية ومحاكمة، فإن احترام القانون والسعي إلى التوعية على دوره في نهضة الشعوب وتقدّمها، كان السمة الغالبة على مؤسسة القضاء ولدى القضاة أنفسهم، لكن الطامة الكبرى التي نزلت بالعراق وأهله في السنوات العشرين التي أعقبت الغزو الأميركي، واستحواذ "وكلاء" إيران على السلطة والقرار، كانت في جنوح المحاكم العراقية نحو إصدار أحكام لا تخالف القوانين والأعراف فحسب، إنما تؤسّس للفوضى، وتعيق نهوض البلد وتطوّره جرّاء خضوع الجسد القضائي لمشيئة السياسيين ورغباتهم. ولا أدلّ على ذلك من أحكامٍ صدرت بحق عدد من كبار لصوص المال العام، ومنهم وزراء ونواب وأصحاب درجات خاصة، تفاخروا علناً أمام كاميرات التلفزيون بأنهم ارتشوا واستغلوا مواقعهم وتقاسموا "الكعكة" مع نظرائهم، (هل كانوا يستخفون بمواطنيهم الذين لا يملكون شروى نقير ويسخرون منهم؟)، لكن القضاء في النهاية غفر لهم ذنوبهم، وأسقط عنهم تبعة خطاياهم، وأوجد المبرّرات غير المعقولة للعفو عنهم، وعادوا أبرياء كما ولدتهم أمهاتهم!
أسقطت المحكمة تهماً موجهة إلى سياسيين هاربين على خلفية ما قيل في حينه عن ضلوعهم بالإرهاب، واستغلال بعضهم المال العام
وفي جديد قرارات القضاء التي ما زال العراقيون يتندّرون بها الحكم على وزير سابق مع ثلاثة من معاونيه بالسجن عاماً مع وقف التنفيذ، وغرامة مقدارها سبعمائة دولار فقط على خلفية واقعة فساد وسرقة للمال العام، بلغ الهدر فيها ثمانمائة مليون دولار، وبرّرت المحكمة قرارها بأن المدانين "لم يسبق أن حكم عليهم بجريمة من قبل"، ولقناعتها (لا أحد يعرف كيف تولدت هذه القناعة) بأنهم "لن يعودوا إلى ارتكاب جريمة مماثلة"، جرى هذا في أعقاب قرار لمحكمة أخرى بالحكم على طفل جائع لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره اتّهم بسرقة علبة مناديل ورقية بالسجن، مثله مثل سميه جان فالجان بطل رواية فيكتور هوغو "البؤساء"، والذي حكم عليه بالسجن إثر سرقته رغيفاً من الخبز.
وفي جديد "مسلسل" القضاء العراقي المستقل (!!) أن محكمة النزاهة أسقطت تهماً موجهة إلى سياسيين هاربين على خلفية ما قيل في حينه عن ضلوعهم بالإرهاب، واستغلال بعضهم المال العام من دون أن تقدّم المحكمة تبريراً لقرارها، ويقال إن ذلك جرى بوساطة سياسيين معلومين، وضمن موجبات الصراع القائم بين أطراف "العملية السياسية" التي توشك على الموت.
هكذا في العراق، إذا سرق الوزير تركوه وأفرجوا عنه، فيما إذا سرق طفل جائع علبة مناديل ورقية كي يقايضها برغيف خبز أقاموا عليه الحد.