عندما يصبح الصحافي محور الخبر
من المفترض في الوضع الطبيعي أن يغطّي الصحافي الأخبار، لا أن يكون محور الخبر. ولكن الأمر في بلادنا العزيزة ينقلب أحياناً، ويصبح الصحافي من دون أن يرغب هدف التغطيات الإعلامية. في الأسبوع الماضي، وبعد قضاء عدة أيام في لندن، عدتُ إلى عمّان، في رحلة وصلت منتصف الليل. وعلى الرغم من المحاولة السريعة للخروج، لتأخر الوقت، وللرغبة في الحصول على قسط من النوم، لأن اليوم التالي كان مليئاً بالعمل الإعلامي لي بمناسبة يوم المرأة، إلا أن الرياح أحياناً تجري بما لا تشتهي السفن. طلب موظف الجوازات مني الانتظار قليلاً، وعرفت، في تلك اللحظة، أن الأمر غير طبيعي.
منذ أكثر من عشرين عاما، وأنا أتنقل بين عمّان والقدس، وأسافر بصورة مستمرة من مطار الملكة علياء وإليه، ولم أوقف مرة واحدة. ماذا حدث؟ ذهب ذهني شمالا وجنوبا. هل لما كتبته أخيرا علاقة بالأمر؟ هل للتشويش الذي وصل إلى أذني عن هذا المقال أو ذاك التقرير أو الموقف من هذا أو ذاك علاقة؟ هل الأمر متعلقٌ بموضوع وثائق باندورا، والتي نشرنا عنها ثلاث ساعات ثم جرى سحبها؟ هل ما نشرت عن تجربتي الصحافية في الأردن في مجلة فورين بوليسي السبب؟ هل السبب اقتباس عادي جدا في تقرير "الغارديان" عن تسريبات بنك كريديه سويس؟ هل الأمر متعلق بموقع المغطس الإلكتروني المختص بشؤون المسيحيين في الأردن وفلسطين، وانزعاج بعضهم من موقفي دعماً لتعريب الكنيسة الأرثوذكسية، ومعارضتي الاستعمار الديني الممثل أخيرا بتعيين بطريرك غير عربي في القدس، أو بما نشرته عن قضية الجامعة الأميركية في مأدبا؟ وهل كانت المطالبة بمساواة كل الطوائف المسيحية، حسب المادة السادسة من الدستور الأردني، هي السبب؟ وهل لتوقيفي علاقة بقرار هيئة الإعلام حجب موقع المغطس في الأردن، بناءً على طلب من مجلس رؤساء الكنائس؟ جرى هذا كله في مخيلتي في الدقائق القليلة، قبل أن يأتي دوري لمقابلة مسؤول أمن المطار، لتوضيح سبب عدم السماح لي كالعادة بالدخول. قال الضابط المسؤول، بكل أدب واحترام، إن هناك قرارا قضائيا بتوقيفي له علاقة بشكوى لدى دائرة الجرائم الإلكترونية. حسناً، قلت له، لا مانع لدي أن أراجع الدائرة غداً. ابتسم، وقال لي إنني سأقيم الليلة في المطار، وأذهب صباحاً برفقة الشرطة للرد على الشكوى. "أنت تمزح" قلت له، ولكنه كان مصرّاً أنه مكلّف بتنفيذ أمر قضائي بالتوقيف، موضحا في الوقت نفسه أن الإفراج عني ممكن، إذا كان لدي شخص يكفلني لدى المركز الأمني في منطقة البيادر.
الهواتف النقالة للمسؤولين الأمنيين ترن، فبدا لي أن خبر توقيفي قد جرى نشره فأصبحت عبئاً عليهم
اتصلت بزوجتي التي كانت في انتظاري في مكان الحقائب، وقلت لها ما جرى، فقالت إنها ستتجه إلى المركز الأمني لمحاولة تكفيلي، وكانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. تركني المسؤول أنتظر في غرفة أخرى، فأخرجت كتاباً كنت قد بدأت قراءته في الطائرة، ونسيت موقعي حيث كان الكتاب فعلاً خير جليس لي. ولكن يبدو أن الأمر كان غير مألوف لمن كان حولي من ضباط، فسألني عن سر قراءتي في هذا الظرف، وقلت له إنني أمضي الوقت لغاية السماح لي بالخروج. مر وقت قصير، وإذا بالهواتف النقالة للمسؤولين الأمنيين ترن، فبدا لي أن خبر توقيفي قد جرى نشره فأصبحت عبئاً عليهم. جاءني الضابط ذاته، ليسأل إن كان أحد قد راجع المركز الأمني. أعلمته أنني أعتقد أنهم في طريقهم، وطلب مني استعجالهم لأن المركز الأمني في انتظار من يراجعهم لإنهاء الموضوع. وطلب مني الحديث عبر هاتفه مع مديره الذي حاول اطمئناني وإعلامي أن أمر احتجازي سيجري حله قريبا. لم أهتم كثيراً بالأقوال، ورجعت إلى قراءة كتابي وانتظار ما سيحدث.
بعد ساعة ونصف الساعة، طلب مني المسؤول توقيع وثيقة متعلقة بالاحتجاز، ثم رافقني الضابط إلى الخارج، معتذراً عن تأخيري، ومؤكداً ضرورة أن أراجع الشرطة في اليوم التالي.
المطلوب من الصحافي تغطية الأخبار، وأن يحاول قدر المستطاع ألا يكون هو أو هي محور الخبر
انتهت قصة احتجازي، لكن من كان وراءها وما حدث بعدها أهم بكثير، فمن دون أن أعرف أو أقوم بأي عمل، يبدو أن أمر توقيفي قد حرّك بعض المياه الراكدة، حيث وصلت إليّ مكالمات تضامن عديدة في اليوم التالي. كما وصلت إليّ مكالمات من مسؤولين أمنيين، لإقناعي بأن ما حصل لم يكن توقيفاً. "لو تم وضعك في النظارة طول الليل لكان الأمر توقيفاً، ما حدث لك مجرد احتجاز بسبب أمر إداري، حيث كان عليك حضور المحكمة، وتم الاتصال بك آلاف المرات ولم تستجب". توقفت مع المسؤول الأمني عند الجملة الأخيرة، فمن يعرفني يمكن أن يشهد أنني لا أغلق هاتفي الخلوي في أي وقت، ولو اتصل بي أحد وأنا منشغل، فإنني دائما أردّ فيما بعد... على أي حال، أهم ما حدث فيما بعد ما صرح به الناطق باسم الحكومة الأردنية أن مديرية الأمن العام تنظر في تخفيف الإجراءات المتعلقة بالمسافرين المطلوبين لبعض القضايا المرتبطة بالجرائم الإلكترونية.
لم تكن قراءتي الكتاب في وقت الانتظار بهدف التسلية فقط، بل ليعرف المسؤولون الأمنيون، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة، أن إرهابهم الفكري ومحاولاتهم إخافتي لن تجدي، ومعنوياتي عالية، وإصراري على قول الحق زاد ولم ينقص. ما كنت ولا أزال متخوفا منه ألا يتأثر الزملاء، وأن يمارسوا الرقابة الذاتية، وهو ما يقتل العمل الصحافي الحر.
المطلوب من الصحافي تغطية الأخبار، وأن يحاول قدر المستطاع ألا يكون هو أو هي محور الخبر. كلي أمل أن أعود إلى عملي الصحافي، من دون أن تكون لتلك الحادثة أي تبعات.