عندما يصبح "العمل في صمت" رذيلة
طالعتنا الأنباء قبل أسابيع، بما يفيد بأن مصر رفضت اعتذارا إسرائيليا عن قصفها أحد أبراج المراقبة التابعة للجيش المصري على الشريط الحدودي بين البلدين "عن طريق الخطأ". وبحسب تقرير نشرته "العربي الجديد"، وجّهت القاهرة "تحذيرات شديدة" لتل أبيب، من القيام "بأي عمليات أو أنشطة عسكرية بمحور صلاح الدين (فيلادلفيا) المحاذي للشريط الحدودي بين مصر وقطاع غزّة، والذي يمتد بطول 13 كيلومتراً، حال قرّرت الشروع في اجتياح برّي للقطاع". وجاء هذا التحذير وفقا لتقديراتٍ مصرية، تشير إلى أن استهداف الموقع العسكري على الشريط الحدودي، لم يكن عن طريق الخطأ "ولكنه يأتي في إطار أعمال استفزازية، بهدف دفع القاهرة إلى اتخاذ قرار أحادي من جانبها بتعطيل عمل المعبر، ومن ثم مواجهة الغضب الفلسطيني والعربي".
بعد نشر التقرير، تساءل ناشط مصري في تغريدة على "تويتر" (أو x) عن سبب عدم إعلان القاهرة عن رفضها الاعتذار الإسرائيلي، وعدم إخبار الشعب المصري بهذه التحذيرات الموجهة لتل أبيب، خاصة أن رد الفعل الرسمي كان خافتا وأقل من المطلوب بكثير، حتى إن البيان الرسمي الذي صدر عن المتحدّث باسم الجيش المصري عن الحادث، أكد الزعم الإسرائيلي أن الحادث وقع عن طريق الخطأ، وكأنه يدافع عن الرواية الإسرائيلية. كما أشار البيان إلى أن "الجانب الإسرائيلي أبدى أسفه على الحادث غير المتعمّد فور وقوعه"، أي أنه لم يعتذر، فهناك فارقٌ بين إبداء الأسف والاعتذار، فعندما يبدي شخص ما أسفه، يكون ذلك على شيء لا يد له فيه، ويكون عبارة عن مجرد إبداء التعاطف والتضامن، أما الاعتذار، فهو طلب المسامحة عن فعلٍ إراديٍّ تسبّب بأذى أو ألم أو ضرر للطرف الآخر، مع تقديم أسباب اتخاذ هذا الفعل، والتعهد بعدم تكراره.
أصبح المؤثّرون الذين صمتوا هم الخاسرون، وأنهم يحتاجون إلى غزّة أكثر من حاجة غزّة إليهم
ردّا على تساؤل الناشط المصري، علّق أحدهم بفخر، قائلا إن عدم إعلان مصر عن هذه التحذيرات يعود إلى أن مصر "ليست جعجاعة"، وإنها لا تمارس السياسة الحنجورية مثل آخرين! فات على هذا الشخص أن الأمر لا يتعلق بالجعجعة والحنجورية من عدمهما، بل بالحق الأصيل للشعب المصري في المعرفة، وبواجب السلطة في إخبار شعبها بما تفعله للحفاظ على سيادتها وأمنها، خصوصا في حدثٍ كبيرٍِ وحسّاس مثل هذا، يتعلق بانتهاك السيادة الوطنية، وفي ظل اشتعال الأحداث المأساوية في قطاع غزة، والغضب الشعبي الكبير في مصر على جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني، ولذلك فإن إخبار المواطنين بهذه الإجراءات هو مصلحة للنظام في الدرجة الأولى قبل أن يكون واجبا، ولذلك لتهدئة غضب الشارع من الحادث. ولذلك فإن ادّعاء "العمل في صمت" يصبح رذيلة ونقيصة في مثل هذه المواقف.
تكرّرت هذه الحجّة نفسها ولكن على مستوى الأفراد، فيما يتعلق بموقف المشاهير والمؤثّرين على مواقع التواصل الاجتماعي مما يحدث في غزّة، وانتقاد بعضهم لصمته وعدم إدلائه بتصريح أو بيان أو اتخاذ موقف. وكان اللاعب المصري محمد صلاح أبرز مثال لهذه الجدالات، فقد صمت النجم المصري الذي يتابعه عشرات الملايين في العالم، أياما طوالا بعد العدوان الإسرائيلي على غزّة، ليخرج بعدها ببيان قصير خجول، ثم أكمل صمته بعدها باعتباره "أدّى ما عليه". لكن اللافت أن بعضهم هلّل لخبر تبرّع صلاح بمبلغ لصالح ضحايا غزّة، معتبرين أنه بذلك يفعل الأمر الصحيح "بدون مزايدات فارغة"، لكن هؤلاء فاتهم أن المنتظر من صلاح لا يتعلق بأمواله، بل بتأثيره الهائل في العالم، وأن قيمة تغريدة واحدة منه عن المأساة التي يعيشها أهل غزّة أكبر بكثير من أي أموال قد يكون تبرّع بها. وبالتالي، نحن هنا أمام حجّة فارغة، تُثبت مرّة أخرى أن "العمل في صمت" ليس أفضل القرارات في أحيانٍ كثيرة، وأن الجماهير كانت تنتظر من صلاح وغيره من المؤثّرين أن يتحدثوا ويكتبوا وينشروا ويعلقوا، ولدينا آلاف الأمثلة عن التأثير الكبير الذي أحدثه مجرّد الكلام عن القضية الفلسطينية في جميع أنحاء العالم خلال الأسابيع الماضية، إلى درجة أصبح معها إثبات أهمية ذلك مضيعة للوقت، وأصبح المؤثّرون الذين صمتوا هم الخاسرون، وأنهم يحتاجون إلى غزّة أكثر من حاجة غزّة إليهم.