عندما "يغرّد" مفتي عُمان
لم تعُد المنشورات على منصّة تويتر (سابقاً)، X حالياً، تسمّى تغريداتٍ، فقد صار يشيع أنها تدوينات، غير أن العنوان أعلاه يجنح إلى الأخذ بالقديم، ليس ودّاً مع كلّ قديم، وإنما أخذاً بما لا يزال له بعضُ الذيوع. وبعد تجاوز هذا التفصيل، الثانويّ لا ريب، يستوقف واحدَنا، وهو يتجوّل في الأخبار عن انتفاضة آلاف الطلبة (والأساتذة) في الجامعات الأميركية، وبعض الجامعات الأوروبية، ضد حرب الإبادة في غزّة، مطالبين بأن تنتهي، وبأن تكفّ الولايات المتحدة عن إسناد إسرائيل، يستوقفُه أن المفتي العام لسلطنة عُمان، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي (82 عاماً)، يدوّن (أو يغرّد؟)، أول من أمس، منشوراً يحيّي فيه هذه الانتفاضة، فيطرأ سؤالٌ عمّا يجعل الرجل بهذا الحرص الذي فيه على أن يُشهر آراءه أو مواقفه في معظم الوقائع والأحداث والمستجدّات المتّصلة بشؤون الأمة، فضلاً عن سؤال آخر، متعلقٍ بما يجعل الشيخ الجليل صاحبَ حيّزٍ خاصٍّ في بلده، بل لنا أن نقول بين عموم المفتين الرسميين في بلادنا العربية، سيّما أنه في هذا الحيّز لا يقيم اعتباراً لحساباتٍ سياسيةٍ تُخالفُ قناعاته، ومن ذلك تنديدُه المتواصل بكل تطبيع عربي مع دولة الاحتلال، ومباركته كل فعلٍ مقاومٍ ضدّها، وغبطته بكل استهدافٍ لها. وهذا هو، في "تغريدته" (أو تدوينته؟) الجديدة، يرجو أن تعمّ الانتفاضة جميع الجامعات، ويرى في هذا "عبرةً لمن يُؤثرون سياسة الانبطاح، ويُسارعون إلى التطبيع مع العدو المحتلّ".
ولئن يأتِ إلى الخواطر أنه ليس من شواغل المشايخ في مواقع رسميةٍ عليا في بلادنا العربية، كما الخليلي في منصبه الرفيع في السلطنة، أن يُدلوا بمواقف مثل هذه، لا تستحسنها السلطات والحكومات والأجهزة، فيما تلقى، بالطبع ثناءً واسعاً من الجمهور العربي العريض، فإن صاحب "الحقّ الدامغ" (أحد كتب الخليلي)، يواصل منذ "7 أكتوبر" إعلان مساندته المقاومة في غزّة ومهاجمته النظام العربي الرسمي، فأحرز بذلك إعجاباً مستحقّاً بلا حدود، وتثميناً لما يدوّن ويكتب ويقول، من دون اكتراثٍ بالذي يُقال عن "دورٍ" رسمتْه للرجل سلطاتُ بلاده، عندما تتيح له حرّية الكلام ضد "انبطاح المطبّعين"، وتُجيز له مباركة تعرّض الحوثيين للملاحة الدولية للإضرار بإسرائيل وحلفائها. وليس لأحدٍ أن يحسم في أمرٍ كهذا، فيؤكّد حكاية "التنفيس" الذي يؤدّيه الخليلي في بلدِه، وتريده السلطة التي تقيم علاقة معلنةً غير رسميةٍ مع دولة الاحتلال. وفي البال أن المفتي المحترم اعتصم عن تسمية الأشياء بأسمائها، لمّا زار نتنياهو مسقط (أكتوبر/ تشرين الأول 2018)، واستقبله السلطان الراحل قابوس، غير أنه هاجم، بُعيْد الزيارة، "ظاهرة التودّد للعدو". ولم يخصم هذا تالياً من التقدير الكبير الذي يخلعُه ملايين العرب على شخص الشيخ الذي لا تزيّد في الزعم إنه "ظاهرةٌ" مفردةٌ في ذاتها في المشهد العربي المعطوب. ومن تفاصيل هذا المشهد أن مشايخ عَرباً بلا عدد، وبينهم علماءُ كبار في الفقه والتشريع، ومنهم مفتون رسميّون، وآخرون كانوا في مواقع الفتيا الأولى، إمّا اكتفوا، بعد "7 أكتوبر"، بإنشائياتٍ متعجّلةٍ تأتي على مشاعر إنسانية عامة، بشأن محنة أهل غزّة في غضون حرب الإبادة التي يتعرّضون لها، أو بلعوا ألسنتهم، وضنّوا على المقاومة الفلسطينية بأي كلمةٍ تشدّ من أزر مجاهديها، واستنكفوا عن الجهر بمواقف من اصطفافاتٍ عربيةٍ مُدانة.
ليس الخليلي من هؤلاء، وهو الذي هاجم، قبل شهرٍ ونيّف، "إطلاق الفتاوي التي تعمل على تطويع الأمة، وذلك في ظل إقبال دول عربية على التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي". ولا يملك أيٌّ منّا سوى تثمين صرخته، عندما كتب في "إكس"، مندّداً بنجدة ذوي قربى الشعب الفلسطيني "للعدو اللدود بما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه من المؤن، بقوافل من الشاحنات تتزاحم على الدخول في محطّاتها". و...، وأردف "واعجباه من المسارعة في مساعدة العدو وإتخامه بالشبع ومحاصرة ذوي القربى". ولسْنا في حاجة إلى أن نحزَرَ أن الرجل يؤشّر إلى ما يتزوّد به الاحتلال من حاجياتٍ وبضائع في جسر برّيٍّ ينطلق من بلد عربي ويمرّ في بلديْن عربيين.
ليس من قولٍ هنا سوى تزجية تحيّةٍ مستحقةٍ لمفتي عُمان، النادر النموذج في "الحقل الديني" الرسمي العربي، بل النادر أيضاً في الحال العربي الذي لم يُصادف أحدُنا فيه تقديراً من أي مسؤولٍ في أيّ موقعٍ عربيٍّ للشبان الطلاب والأساتذة في الجامعات الأميركية سوى من شيخٍ جليل، اسمُه أحمد بن حمد الخليلي.