عندما "يكرّم" ماكرون نابليون
لمّا سقطت باريس تحت الاحتلال النازي، زارها هتلر في 1940، وانحنى أمام قبر نابليون بونابرت، وقال له: سامحني، يا عزيزي، لأني هزمتُ بلدك. لكن يجب أن تعرف أن شعبَك كان مشغولا بقياس جمال النساء، فيما شعبي كان مشغولا بقياس فوّهات المدافع والبنادق. .. وفي أثناء جولته على معالم ومآثر فيها، زار دونالد ترامب، مع زوجته، في يوليو/ تموز 2017 القبر نفسه، ولم ينطق بشيء، وكان بصحبة الرئيس ماكرون وزوجته. أما زيارة الأخير، الأربعاء الماضي، قبر الإمبراطور الفرنسي العتيد، فلم تكن سياحيةً، وإنما لإشهار انحيازٍ لما يمكن تسميتها الروح القيادية التي كان عليها نابليون. وقد تشاطرت الرئاسة الفرنسية، عندما لم تعدّ وضع إكليل الزهور على القبر فعلا تكريميا، وإنما لإحياء الذكرى المائتين لوفاة "الباني والمشرّع"، بحسب بعض أوصافٍ خلعها الرئيس على المُحتفى به، في كلمةٍ قالها بالمناسبة. وعندما يكون ماكرون وحده من رؤساء فرنسا من أدّى زيارةً مثل هذه، فإنه، في أمره هذا، يتقدّم خطوةً أكثر احتفاءً مما فعل الرئيس جورج بومبيدو، في العام 1969، والذي احتفل بالمئوية الثانية لولادة نابليون، وأكثر إيحاءً من مفردات الإعجاب التي رماها ديغول للقائد المغامر الذي احتشدت حياته القصيرة (عاش 51 عاما) بانتصاراتٍ وهزائم ومنجزاتٍ وسوءاتٍ بلا عدد، لمّا قال إنه "لا يوجد اسم أكثر عظمةً من اسم نابليون، بدأ من لا شيء، ومحروما من كل شيء، وحصل على كل شيء". الأهم هنا أن ماكرون يكسر ما يمكن حسبانها قطيعةً مع نابليون، زاولها هولاند وساركوزي وشيراك وميتيران وديستان، اتساقا منهم مع النأي العريض عن رجلٍ مستعمر، أعاد العبودية إلى فرنسا، "ليس عدوا للجمهورية الفرنسية وحسب، وإنما للإنسانية أيضا"، بحسب ناشط كتب في "لوموند" هذا، رجلٍ يُحسب "أحد أعظم كارهي النساء"، بحسب وصف الوزيرة الفرنسية إليزابيث مورينو. وهو من قبلُ ومن بعد، تسبّب بمقتل مئات الآلاف في حروبه وحملاته العسكرية، فضلا عن أنه الذي ارتكب انقلابا عسكريا في العام 1799 على الجمهورية الفرنسية.
هل هو جنوحٌ جديد من ماكرون باتجاه مزيدٍ من اليمينية، ومغازلة المتطرّفين من معتنقيها؟ لكنه في كلمته التي محض فيها نابليون بفائضٍ من التقدير جاء على أخطاء ارتكبها "المدافع عن السيادة الوطنية"، و"منظّم الدولة الحديثة"، ومنها العبودية، وهذه "أمر بغيض، وكانت خيانةً لروح التنوير". تُفرد "نيويورك تايمز" تقريرا مطوّلا للصحافي روجر كوهين، يحاول الإجابة على سؤالٍ كهذا، ويجد أن ماكرون الذي يلحّ على التذكير بأن نابليون جزءٌ من تاريخ فرنسا، إنما يخوض حربا ثقافية في بلاده، ويعمل على "إرضاء يمينٍ فرنسيٍّ مضطربٍ يحلم بمجدٍ ضائع". ويرى الكاتب أن ماكرون يقوم بمخاطرة، وأن نابليون، بحسب الرئيس وأنصاره، يجسّد كل ما تشعر فرنسا بأنها فقدته. ويأتي بقولٍ يرى صاحبُه أن الديك الفرنسي مع نابليون كان نسرا إمبراطوريا، لكنه أصبح الآن مجرّد دجاجةٍ عجوزٍ متعبة.
تخوض نخب فرنسا جدلا ثقافيا وسياسيا محتدما بشأن نابليون، وما يمكن أن تعنيه استعادتُه، حيث المقرّر بعد أيام أن يبدأ عامه، بفتح معارض عنه وإقامة أنشطةٍ عن سيرته. وإذا تابعتَ ما أمكن لك أن تتابعه في هذا الجدل ستراه جدل انتعاش اليمين في مساجلاتِه مع اليمين المتطرّف. فضلا عن أن في الوسع أن تُحسب لحظة نابليون الراهنة هذه، وفي ذروتها إكليل الزهور الذي وضعه ماكرون على القبر، في متن سؤال فرنسا عن نفسها، فرنسا التي يحذّر جنرالات وضباط كبار متقاعدون فيها من حدوث حربٍ أهليةٍ أو انقلابٍ عسكريٍّ فيها (نابليون انقلابي بالمناسبة). وبذلك، يجوز اعتبار ما فعله ماكرون في سياق كهذا، وإنْ ثمّة ما هو شخصيُّ محض فيها. وهذا تقرير "نيويورك تايمز" يعتقد كاتبُه أن قرار التحدّي الأساسي الذي يواجهه ماكرون، في موسم انتخابيٍّ يقترب، هو من اليمين، فإكليل الزهور ذاك وسيلةٌ لمواجهة الزعيمة اليمينية المتطرّفة، مارين لوبان.
ليزيد الفرنسيون ويعيدوا كيفما شاءوا في أمر نابليون، كاره بريطانيا العتيد، والمهزوم عند أسوار عكا. أما نحن العرب فقد تجادلنا بشأنه فيما بيننا، قبل أعوام، إبّان أراد وزير الثقافة المصري الأسبق، فاروق حسني، العام 2008، تنظيم "احتفاليةٍ" بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر. وفي مقلبٍ آخر، يقيم الإمبراطور العتيد في أرشيفنا صاحب نداءٍ بعيد، يلحّ فيه على اليهود في آسيا وأوروبا بأن يستعجلوا إلى القدوم إلى القدس واحتلالها تحت راية فرنسا. عنصرية نابليون ورجعيته واستعماريته التي يتجدّد حديث فرنسي عنها، حاليا، تذكّر بهذا.