عندما ينتحر شاعرٌ في غزّة
"لم أعد أستطيع تحمّل كل هذا الألم". يكتُب هذا وسواه الشاعر الغزّي محمد نبيل النجار على "فيسبوك" قبل أن ينتحر. لم يشنق نفسَه، ولم يقطع شرايين إحدى يديه، بل احتضن قنبلة يدوية ثم فجرّها في نفسه. كأنه كان يريد أن يتأكّد من أن الأداة كفيلة بقتله دفعة واحدة. كأنه كان يرغب، في قرارة نفسه، بألا يستسلم للتردّد في آخر لحظة، فيعدل عن الانتحار بأن يفكّ عقدة الحبل لو اختار الموت شنقاً، أو يُسرع إلى الضغط على يده لو قطع شرايينها لمنْع تدفّق الدم. كأنه أراد أن يموت في الحال، ليغادر هذه الحياة التي تألم فيها بما يكفي ويزيد.
الشاب في السابعة والعشرين. يبدو ممتلئ الوجه. على ملاحةٍ ظاهرة، بلحيته ونظّارته الطبّية وشعره المصفّف بعناية، كما تُظهره صورة بروفايله على "فيسبوك"، وهو من سكّان خان يونس في قطاع غزّة، وحاصل على شهادة جامعية في العلوم السياسية والإعلام، إضافة إلى عضويته في اتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين. ولا توفّر المعلومات القليلة عنه شيئاً يُعتدّ به عن موهبته الشعرية أو عن أي ديوان قد يكون أصدره، لكن قصيدة له منشورة على صفحته تبيّن أن الشعر لديه ليس أكثر من هواية، وأن موهبته عادية أو أقلّ من ذلك، الأمر الذي لا يعيبه في أيّ حال.
وللتوضيح، لم ينتحر محمد لنقص في موهبته الشعرية، بل لما هو أسوأ بكثير، فهو يعاني من الاكتئاب منذ ثماني سنوات، وخضع لآخر جلسة علاج بالكهرباء قبل نحو عام، بلا جدوى، فالألم الداخلي أكبر من أن يُحتمل، كما قال.
ولعل مأساة محمد تلقي ضوءاً كاشفاً على الأوضاع الكارثية للشبّان في قطاع غزّة، فهم منذورون للموت بطريقةٍ أو أخرى، بالقصف الإسرائيلي أو بالحصار وغياب الأمل والجوع والبطالة عن العمل، ولأسبابٍ وطرقٍ قد لا تخطر على بال أحد، وهو ما دفع أحد أصدقاء محمد على "فيسبوك" للتعليق بأن "شعب غزة"، والتعبير له، "ختم قاموس الموت، ولو كان هناك ابتكار آخر للموت فسيكون أول من يتصدّرون تجربته".
لم يعرف قطاع غزّة تاريخياً وقائع انتحار كبيرة، ربما لأسبابٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ في الأساس، لكن هذا تغيّر في العقدين الأخيرين. وتعيد أغلب الدراسات والإحصائيات تحوّل الانتحار في غزّة إلى ظاهرة، وارتفاع أعداد من يُقدمون على الانتحار هناك إلى تبعات العدوان الوحشي عام 2014 الذي قُتل فيه أكثر من ألفين ومئتي غزّي، نحو خمسمائة منهم أطفال، وما تلا هذا العدوان من حصار وعقاب جماعي، ففي عام 2016 كانت وقائع الانتحار ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في 2015. وفي السنوات الأخيرة، أصبحت وقائع الانتحار أكبر والتستّر عليها أو عدم الاعتراف بها أكبر بكثير مما كانت عليه سابقاً (عام 2020 سجلت الشرطة الفلسطينية 17 انتحاراً من أصل أكثر من 400 محاولة).
وتقدّر منظّمة الصحة العالمية نسبة من يعانون مشكلاتٍ تتعلق بالصحة العقلية والنفسية في قطاع غزّة بنحو 20% من عدد سكانه، وترتفع هذه النسبة في صفوف الأطفال الذين يعاني نحو 60% منهم من اضطرابات ومشكلات نفسية. وهذه النسب من بين الأعلى في العالم، فنسبة البالغين في العالم ممن يعانون الاكتئاب نحو 5%، أي نحو 280 مليون شخص عبر العالم، يُقدِم على الانتحار من بينهم ما بين 700 ألف إلى مليون شخص كل عام، بحسب المنظمّة نفسها.
ليست الأرقام مهمة في حد ذاتها، بل في دلالاتها، فقطاع غزّة الذي يخضع لأسوأ حصار في العالم لا يتعرّض للاحتلال وحسب، بل ولتبعاته التي لا تقلّ كارثية وسوء عنه، فالجهود العالمية لعلاج الاكتئاب تُحرز تقدّماً كبيراً، وهو يُحاصر وينحسر أو في طريقه إلى التحوّل إلى مرض عادي، وليس قاتلاً، بفضل تطوير بعض العلاجات والعقاقير الطبّية التي أثبتت فاعليّتها، إضافة إلى الجلسات السريرية وإيجاد البيئات الحاضنة لمن يعاني منه، وهو لا يتوفّر على الإطلاق في قطاع غزّة الذي لا يجد كثيرون من سكانه قوت يومهم.
وداعاً محمد النّجار، "الشاعر" بثقل مأساتك حتى لو لم تُصدر ديواناً واحداً في حياتك.