عندما يوجّه الأولمبياد ضربة قاضية للتطبيع
كانت الرياضة دوماً جزءا من المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلدان والقارّات المختلفة. ربما أصبحت الصورة أكثر وضوحاً مع تحوّل العالم إلى قرية صغيرة إثر ثورة التكنولوجيا ووسائل الإعلام الجديد، حيث النقاش في مسائل قارّية وأممية عديدة لم يعد رياضيا بحتا، بل فكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما رأينا في مشروع دوري السوبر الأوروبي، أو في اختيارات اللاعبين متعدّدي الجنسية للمنتخبات التي يمثلونها وتنقلات اللاعبين بميزانيات عالية جداً وحتى خيالية بين الأندية المختلفة التي لم تعد ملك جماهيرها فقط، وإنما أيضاً للشركات متعدّدة الجنسيات عابرة الحدود والقارّات.
استندت الألعاب الأولمبية التي انطلقت قبل قرن ونصف القرن تقريباً إلى المعطيات السابقة، بهدف تعزيز قواعد التنافس الشريف، والتقريب بين الدول والشعوب، تطبيقاً للقاعدة الصحيحة أن الرياضة لا تُدار نهائياً بمعزل عن السياسة، ولكنها قادرة على تحقيق ما عجزت وتعجز عنه هذه الأخيرة، كما رأينا على سبيل المثال في سابقة تشكيل فريق من اللاجئين للتنافس في الأولمبياد تحت علم الأمم المتحدة، بعدما عجزت السياسة عن إرجاع حقوقهم الأساسية، بما في ذلك التنافس كمواطنين كاملي الحقوق في أوطانهم الأصلية.
في العموم، لم يحد أولمبياد طوكيو الأخير أيضاً عن القواعد والأسس السابقة، ولكنه تضمّن، من جهة أخرى، دلالات لافتة، أهمها كشف (أو للدقة فضح) أحوال الدول العربية، تحديداً الكبرى منها التي حققت نتائج متواضعة، قياساً لإمكاناتها البشرية والمادية الهائلة، وقياساً إلى ما تحققه دول متوسطة أو حتى صغيرة (ولكن مجتهدة) الحجم والقدرات، مثل كينيا وأوغندا وحتى كوبا وجامايكا وأوزبكستان.
لا يمكن الجدال في حقيقة الرفض الشعبي العربي الواسع للتطبيع مع إسرائيل، مع استعداد الغالبية العظمى من الرياضيين العرب لتكرار فعل زملائهم
في السياق العربي، كانت واحدة من أهم دلالات الأولمبياد أيضاً توجيه رياضيين عرب ضربة قاضية للتطبيع مع إسرائيل، وإسقاط مساعي تمريره شعبياً، بحجة أنه (التطبيع) قادر على حلّ مشكلات الدول المطبّعة وأزماتها، بعدما قرّر رياضيون عرب من الجزائر والسودان المقاطعة وعدم اللعب "لا الانسحاب" أمام الرياضيين الإسرائيليين. حيث بدا الأمر هنا فكريا وسياسيا ورياضيا بامتياز، بينما اتبعت مشارِكة سعودية العكس، وجاءت نتيجة فعلها من دون أن تنوي ربما لتؤكد ما ذهبت إليه السطور أعلاه. وقد نالت المقاطعة تأييدا كبيرا من المدرّبين والإداريين والبعثات العربية، وعبرت عموماً عن المزاج العام للمشاركين، ونالت تأييدا جماهيريا كبيرا في العالم العربي، كما تبدّى عبر منصّات الإعلام الجديد التي لا تستطيع أنظمة الاستبداد خنقها أو السيطرة عليها.
لا يمكن الجدال في حقيقة الرفض الشعبي العربي الواسع للتطبيع مع إسرائيل، بينما مثل الأولمبياد فرصة للتعبير عن هذا الموقف رياضياً، مع استعداد الغالبية العظمى من الرياضيين العرب لتكرار فعل زملائهم من الجزائر والسودان. وكانت الرياضية السعودية ستفعل الشيء نفسه، لولا الضغوط الحكومية والأجواء الرسمية العامة المؤيدة للتطبيع ضمنياً، بينما فضحت خسارتها الكبيرة المهينة، وغير المعتادة، أمام منافستها الإسرائيلية المنظومة الرياضية السعودية برمتها، وأكّدت أن استعداد هذه المنظومة للحدث العالمي، على الرغم من الإمكانات الهائلة، تم بشكل سيئ وغير محترف، أو حضرت فيه المجاملات والمحسوبيات، وانعدمت فيه النزاهة والعدالة وتكافؤ الفرص بين الرياضيين.
أكد الأولمبياد أن الملاعب والميادين الرياضية تمثل ساحاتٍ للتعبير لا يمكن خنقها
وعلى قاعدة "أخذتهم العزة بالإثم"، أجرى موقع إلكتروني سعودي مقابلة مع الرياضية الإسرائيلية التي هزمت مواطنتهم لتبرير الحدث نفسه وشرعنته، فيما يشبه الهروب إلى الأمام، كما لتكريس التطبيع بحد ذاته، وكأنه أمر مفروغ منه رياضياً وإعلامياً أيضاً. مع ذلك، انتبهت صحيفة يديعوت أحرونوت ووسائل إعلامية عبرية أخرى إلى مغزى ما جرى في طوكيو ودلالته، لجهة تأكيد الرفض الجماهيري العربي الواسع والعنيد للتطبيع، وكشف حقيقة أنه لم ينتقل من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي، كما رأينا في ميادين الرياضة، علماً أن متنافسين عربا آخرين مصريين، وحتى أردنيين، وحكومتا بلديهما مطبعتان، وففوا وسيقفون الموقف نفسه في المستقبل. وأشارت "يديعوت" كذلك إلى ارتفاع علني وصريح، كمّاً ونوعاً "في مستوى رفض التطبيع الرياضي ومقاطعة الرياضيين الإسرائيليين، إذ لم يعد الرياضيون العرب بحاجة إلى ادّعاء الإصابة مثلاً لعدم مواجهة الرياضيين الإسرائيليين في المحافل الدولية، كما كان يحدُث في الماضي، وإنما يجري الإعلان صراحة عن الرفض المبدئي للتنافس، لنزع الشرعية عن الرياضيين الإسرائيليين والدولة العبرية بشكل عام.
وعلى الرغم من التحريض الإسرائيلي سياسياً وإعلامياً ورياضياً، فإنّ اللجنة الأولمبية الدولية لا تستطيع فعل شيء، كونها ملزمة باحترام قناعات الرياضيين العرب ومشاعرهم، في ظل التأييد والدعم الواسع لهم شعبياً وحتى رسمياً من زملائهم ومدرّبيهم ومسؤوليهم.
ما جرى في طوكيو أثبت صعوبة التطبيع الرياضي العربي الإسرائيلي في سياقاتٍ أخرى، وأجهض أو وجّه ضربة قاضية لفكرة عودة إسرائيل إلى الاتحادات الآسيوية والقارّية، تحديدا اتحاد كرة القدم أو حتى اللجنة الأولمبية الآسيوية، علماً أنها تتنافس الآن من خلال الاتحادات الأوروبية، إلا أن المستجدّات الأخيرة أكدت صعوبة ذلك، في ظل عزلة الدول والشخصيات المنادية بالتطبيع الرياضي. وعموماً، أكد الأولمبياد مرة أخرى أن الملاعب والميادين الرياضية تمثل ساحاتٍ للتعبير لا يمكن خنقها، كما رأينا حجم التعاطف الكبير مع الشعب الفلسطيني من الرياضيين والجماهير في المدرّجات بشكل عام في أثناء هبة القدس، ومعركة سيف المدينة في مايو/ أيار الماضي.
الرياضة كانت وستظل وسيلةً مثلى للتقريب والتعارف بين الدول والشعوب المختلفة، لكننا أمام دولة ارتكبت ولا تزال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية
ويمكن اعتبار ما فعله الرياضيون العرب تطبيقاً للروح الأولمبية، لا خروجاً عليها، كوننا نتحدّث عن دولة ارتكبت ولا تزال جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني. وهي دولة فريدة بالمعنى السلبي، إذ يمتلكها الجيش ولا تمتلكه، والتجنيد فيها إجباري لكل الشباب، فتياناً وفتيات، حتى أن إحدى المشاركات في الأولمبياد عادت من طوكيو مباشرة إلى وحدتها القتالية في جيش الاحتلال. وهنا يذكّرنا الرياضيون العرب، مرة أخرى، بصعوبة وحتى استحالة فصل الرياضة عن السياسة بشكل تام، علماً أنّ الأولمبياد انطلق من القاعدة نفسها تقريباً.
في كل الأحوال، تؤكد المعطيات السابقة حقيقة أن الرياضة كانت وستظل وسيلةً مثلى للتقريب والتعارف بين الدول والشعوب المختلفة، لكننا أمام دولة ارتكبت ولا تزال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مثلما تقول الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية موثوقة، تحديداً في ما يتعلق بحصار عزّة غير الشرعي والجرائم المتواصلة بحق أهلها، كما الاستيطان والتهجير القسري في القدس والضفة الغربية، واتباع مزيج من التمييز العنصري والفصل العنصري ضد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية، وتفلت من العقاب أو لا يتم ردعها، كما ينبغي من المؤسسات والمنظمات الدولية. ولا بأس هنا من التذكير، مرة أخرى، بأن منافسة إسرائيلية (وآخرين بالتأكيد) عادت من الأولمبياد إلى وحدتها القتالية في جيش الاحتلال. وبالتالي، يبدو التساؤل منطقياً وضرورياً وأخلاقياً عن كيفية التنافس الشريف معها، وفق قواعد الروح الرياضية والمواثيق الأولمبية ذات الصلة.