عن "نكتة" استرداد الأموال المنهوبة
ليس ثمّة غرابة في أن يثير "مؤتمر استرداد الأموال المنهوبة" الذي احتضنته بغداد قبل أيام كل هذا الفيض من التعليقات الساخرة، والنكات اللاذعة الطريفة، في مواقع التواصل، وعلى ألسنة العراقيين الذين وجدوا فيه مادة للتندّر وقضاء الوقت، وسط فصل طقس حار طال مكوثه عندهم، كما ليس ثمّة غرابة في أن يتصرّف "حيتان" الفساد الكبار، وكأن الأمر لا يعنيهم، إذ يتسابقون على الترحيب بالمؤتمر، وفي إزجاء طروحات وحلول لما يرونه مناسباً لأحوالهم ولذرّ الرماد في عيون "الحسّاد" الذين يلاحقونهم، ومنهم من حضر بعض جلساته، مصغياً ومتابعاً بحرارة، ومطمئناً لما يمكن أن يسفر عنه، في حين أن "المؤتمر" لم يكن أكثر من "نكتة" موسم طازجة بامتياز، وقد لحق بسلسلة مؤتمرات "علاقات عامة"، ابتكرها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، جديدها "مؤتمر قمة بغداد لدول الجوار" الذي دخل التاريخ الميت، كما مؤتمرات قبله. ولكن فضيلة واحدة تظل لمؤتمر اليوم؛ أنه كشف حجم الأموال المنهوبة من العراق طوال عقدين، والتي قدّرها تقرير رسمي من داخل المؤتمر بثلاثمئة وستين ملياراً من الدولارات، فيما يقول خبراء ماليون معنيون إنها تصل إلى أكثر من تريليون دولار، وهو ما يساوي ميزانيات دول عديدة. ووصفت "تغريدة" ساخرة على موقع "تويتر" المؤتمر بأنه أحد إنجازين مهمين، اقترفهما الكاظمي في الأسبوع الأخير. الثاني اجتماعه المفاجئ مع المطرب حسام الرسام، حيث كلّف الأخير بإنجاز أغنية لدورة كرة القدم الخليجية التي تستضيفها البصرة العام المقبل.
أشكال مبتكرة لنهب المال العام لا يمكن رصدها أو التثبت من مجرياتها، كونها تعتمد على فتاوى "شرعية"
إشارة لافتة برزت في جلسات المؤتمر، وهي الإعلان عن نجاح هيئة النزاهة في استرداد ما يقرب من أربعين مليون دولار من الأموال المنهوبة، أي ما يساوي قطرة صغيرة في بحر هذه الأموال. ما يعني أن ما استردّ هو ما نهبته "حيتان" صغيرة لا حول لها ولا طول، أما "الحيتان" الكبيرة، وهي معروفة ومشخّصة، فقد ظلت خارج المساءلة القانونية، وإذا ما جرى الحال على هذا المنوال، وحتى لو خلصت النيات، فإننا نحتاج عقوداً، ربما قرناً، كي نسترد المال كله، وقد ألقت الحكومة بفشلها في هذا الجانب على "عدم توفر تعاون دولي"، ودعت إلى تكوين "جبهة ضاغطة على المجتمع الدولي" لاسترداد ما نهب.
إشارة لافتة أخرى من "هيئة النزاهة" أنها أصدرت ما يقرب من ثلاثمئة أمر قبض واستقدام بحق وزراء ونواب وذوي درجات وظيفية خاصة، إلا أن هذه الأوامر لم تفعّل بحكم امتلاك بعضهم "الحصانة" التي توفرها لهم مناصبهم، أو لأن بعضهم الآخر يتمتّع بحماية مليشيات أو أحزاب معينة، لا تمكّن حتى رجال القانون من الاقتراب منهم.
تظل طامة كبرى، وهي أن هناك أشكالاً مبتكرة لنهب المال العام لا يمكن رصدها أو التثبت من مجرياتها، كونها تعتمد على فتاوى "شرعية"، تضمن للفاعلين الحرية التامة في وضع اليد عليها والتصرّف بها، لأن "المال العام مجهول المالك وليس له صاحب، وشرعية التصرف به بوضع اليد عليه ودفع الخمس للمرجع". وقد استغل بعض ولاة الأمور تلك "الفتاوى" المزعومة في ترتيب عمليات مشبوهة، لتهريب كميات من النفط إلى خارج البلاد، وبيعها في السوق السوداء، أو الاستحواذ على واردات المنافذ الحدودية، وتردّدت أسماء أحزاب ومليشيات وشخصيات سياسية كونها تقف وراء تلك العمليات.
يمكن استرداد معظم ما نهب من مال، عبر تفعيل قانون الكسب غير المشروع، ورفع الحصانة عن الرؤوس التي تدير عمليات الفساد والإفساد
أما القضاء العراقي فقصته قصص، وليس قصة واحدة، فهو تابع، بحكم الأمر الواقع، لمشيئة السياسيين النافذين، ويعمل وفق مبدأ "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، ألم يأتكم خبر القاضي الذي حكم على الطفل مصطفى وجدان بالسجن لسرقته أربع علب مناديل ورقية، فيما برّأ ساحة "حيتان" كبار سرقوا الملايين؟ أما سمعتم بحيتان آخرين حامت حولهم الشبهات في عقود توريد السلاح، والكهرباء، وجولات التراخيص النفطية هربوا خارج البلاد، وحكم على بعضهم غيابياً، ثم عادوا معزّزين مكرّمين بموجب قرارات عفو، وعفا الله عما سلف؟
هنا تطل الحقيقة برأسها بلا مؤتمر وبلا بطيخ، وبلا تكاذب متبادل بين اللصوص وحُماتهم من أحزاب ومليشيات ومافيات. هنا يمكن أن تدقّ الأجراس، وبخطوات بسيطة سريعة ومعلنة، يمكن استرداد معظم ما نهب من مال، عبر تفعيل قانون الكسب غير المشروع، ورفع الحصانة عن الرؤوس التي تدير عمليات الفساد والإفساد، وتشكيل هيئات قضائية مستقلة، لإنجاز هذه المهام في مدّة محدودة، ووفق ضوابط قانونية تحقق العدل، ولا تظلم أحداً.
ومن دون ذلك، سنظل نسمع جعجعةً ولا نرى طحناً!