عن أردوغان
ليس الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قدّيساً ولكنه ليس شريراً أيضاً. وهو ليس زعيماً ملهماً، ولكنه ليس زعيماً عادياً كذلك. وهو ليس ديكتاتوراً، ولكنه ليس ديمقراطياً واهماً. وهو ليس أباً لتركيا، ولكنه في المقابل مجدّد لها باعث لتطلعاتها، ولا شك طبعت بصماته مستقبلها. وهو ليس فاتحاً إسلامياً، ولكنه أحيا لدى كثيرين أمجاداً سطّرها فاتحون مسلمون كثر. وهو ليس رهينة إيديولوجيا ولا تنظيمات ولا تيارات كما يتوّهم بعضهم، ولكنه لا يتنصّل من الإيديولوجيا ولا يتبرّأ من انتماء تركيا إلى الإسلام، تاريخاً وجغرافية وثقافة وحضارة. أردوغان رئيس لدولة إقليمية كبرى، لها طموحاتها وأطماعها، كما أن لها حساباتها وتحدّياتها، داخلياً وإقليمياً ودولياً. وأولاً، وقبل أي شيء، يدرك أردوغان أن رئاسته وزعامته لا تعنيان شيئاً، بل ولا تتحقّقان، من دون دعم غالبية الأتراك، لا سواهم له. وتركيا بلد منقسمٌ إثنياً ومذهبياً وثقافياً وإيديولوجياً. من لا يفهم هذه التعقيدات وما قد تبدو تناقضاتٍ لا يفهم أردوغان ولا يفهم تركيا الحديثة، التي لم يجد حتى مرشّح المعارضة، كمال كلجدار أوغلو، الذي يقدّم نفسه مدافعاً عن الإرث الأتاتوركي للبلاد، إلا أن يتمسّح بالإسلام ويتودّد إلى طبقات المتدينين الأتراك.
يدرك خصوم تركيا، غربياً وعربياً، أن تركيا من دون أردوغان ليس كتركيا بزعامة أردوغان. هذا رجل لديه رؤية لتركيا قوة إقليمية كبرى، وصاعدة ومؤثّرة عالمياً. وهو محترفٌ في القفز بين الحبال المتعدّدة والمتناقضة في سياق مشروعه لتركيا. من ناحيةٍ، يحافظ على علاقاته بالغرب ويبقي على عضوية بلاده بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكنه لا يسلّم سيادتها إليهم ولا يتردّد في الاصطدام بما يراه مشاريع تستهدف تركيا ومصالحها، كما في سورية. ومن ناحية أخرى، يعزّز خطوط التواصل مع روسيا والصين، ولكنه لا يغامر بالتحالف معهما ضد الغرب. يعلم أردوغان أن الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي لا ينظران إلى تركيا ولا يريدانها إلا تابعة ومخلباً متقدّماً لهما في فضاء الشرق الأوسط وفي مساعي احتواء روسيا. وهو لا يتردّد في التصدّي للمحاولات الأوروبية، المدعومة أميركياً، لخنقها في شرق المتوسط عبر اليونان. هم يريدون إعادة تركيا ضعيفة كما كانت، معتمدةً عليهم تدين بالولاء لهم، وهو يريد تركيا أكثر استقلالاً عنهم لا ترهن مصالحها الاستراتيجية لإمبرياليتهم.
خلال عقدين من زعامته تركيا، حدّث بنيتها التحتية وعزّز قوتها الاقتصادية وأحدث قفزاتٍ غير مسبوقة في صناعاتها العسكرية وضاعف حضورها الإقليمي والدولي. وهو فوق ذلك أعاد جسور التواصل بين تركيا والعرب، ولا نبالغ إن قلنا إن شعبية أردوغان بين الشعوب العربية أعلى منها بين الأتراك. لكن، أردوغان الذي لديه انتماء إيديولوجي واضح، ويعرف كيف يوظّفه عندما يجعل من نفسه رهينة له أبداً، دون أن يعني ذلك التمرد عليه. هو يفهم أنه زعيم دولة كبيرة حقيقية لا يمكن اختزالها بشخص مهما عظم، ولا بحزبٍ مهما امتلك أغلبية. كما أن قرار التسييد في يد الأتراك وحدهم، وهم منقسمون، كما سبق القول. كل من عجزوا عن إدراك ذلك سقطوا إما في فخ تهويل أردوغان وتحميله فوق ما يحتمل، أو أنهم سقطوا في فخ التهوين منه وشيطنته.
حدّث أردوغان بنية تركيا التحتية وعزّز قوتها الاقتصادية وأحدث قفزاتٍ غير مسبوقة في صناعاتها العسكرية
عمل أردوغان على بناء صورته داخلياً زعيما قوميا مسلما تركيا قويا. الإسلام هنا جزء من بناء الصورة والزعامة في بلد يحضر فيه الإسلام بقوة، دون التشكيك طبعاً بإيمان الرجل. كما لم يغب عنه بناء صورة موازية موجهة للخارج كزعيم مسلم منافح عن حقوق المسلمين المستضعفين، كما في فلسطين وسورية وميانمار. لكن، عندما تعارضت مصالح تركيا الكبرى مع هذه الصورة مال إلى المساومة، فأعاد تطبيع العلاقات مع إسرائيل بعد سنوات من التوتر والجفاء. وكان صوته أكثر انخفاضاً في الحديث عن حقوق المسلمين الإيغور في الصين. ثمَّ جنح إلى المساومة والمهادنة مع بعض الدول التي شهدت انقلابات على الثورات العربية، كما مصر. ومع ذلك، تقتضي الموضوعية أن ننبه هنا أنه لم يتواطأ في ظلم أو الإعانة عليه، بقدر انطلاقه من حسابات الضرورة والممكن. دعم الشعب السوري ما استطاع قبل أن تتبدل موازين القوى وتجد تركيا نفسها، بل حتى حظوظه الرئاسية نفسها، في عين العاصفة. ومع ذلك، لم يتبنّ خطاباً عنصرياً بغيضاً ضد اللاجئين السوريين في بلاده، كما يفعل كلجدار أوغلو، ولم يتركهم لمصيرهم. وهو ضغط على المعارضين المصريين المقيمين في تركيا للتهدئة، ولكنه لم يسلمهم لنظام بلادهم. سعى إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولكنه لم يهادنها على حساب الفلسطينيين ولم يتخلّ عنهم.
لا توجد مفاجأة في أن أردوغان عجز، حتى اللحظة، عن تأمين ولاية رئاسية ثانية بعد أكثر من عقدين من استفراده وحزبه العدالة والتنمية بقيادة البلاد، بل المفاجأة أن تعجز المعارضة الموحّدة ضده في هزيمته. يئن الاقتصاد التركي تحت وطأة ملايين اللاجئين والتضخّم وتداعيات جائحة كورونا والزلزال الرهيب قبل بضعة أشهر. ولم يألُ الغرب جهداً في التحشيد ضد أردوغان والتحذير من خطره. ومع ذلك، تقدّم أردوغان بفارق كبير في الجولة الأولى، وعلى الأرجح سيحسم الرئاسة في الجولة الثانية، مدفوعاً بمشاريعه وإنجازاته الكبرى في حقول الطاقة والاقتصاد والصناعات العسكرية. تُرى كم من الديمقراطيات الغربية نجح فيها حزبٌ في البقاء في الحكم 20 عاماً؟ أما سفسطة بعض أبواق أنظمة الطغيان العربي عن "ديكتاتورية" أردوغان، الذي ينافح للظفر برضى 50% من شعبه، فهي أسخف من إعارتها انتباهاً. وكلمة أخيرة، إذا كان الأتراك أنفسهم يجدون مشكلة في الوثوق في كلجدار أوغلو، فكيف يتمنّى بعض العرب نجاحه، وهو الذي لا يُخفي عنصريته ورغبته في إشاحة الوجه عنهم؟ شخصياً، لا أظن ذلك يأتي من باب السفاهة، وإنما لؤماً على أمل أن تنهار تركيا وتعود سيرتها الأولى ضعيفة تابعة في فلك الغرب، حتى لو كانت معاديةً للعرب. بالنسبة لهؤلاء، يتمنّون تركيا متعالية علينا نحن العرب على تركيا التي قد تقدم نموذجاً أفضل يمكن لنا أن نحتذيه. إنهم يودّون رؤية تركيا منهارة على أن يقدّموا تجربة تنافسها.