عن استرجاع المال المنهوب في الجزائر
عانت الجزائر، عقودا، من إشكالية الفساد وتبعاتها، وبخاصّة في عهد الرّئيس الرّاحل عبد العزيز بوتفليقة، وهي الإشكالية التّي يمكن تجسيدها برقم مهول لتحديد حجم الكارثة الاقتصادية التي سببتها، حيث يشير خبراء إلى ما يفوق تريليون دولار، ذهبت في مهبّ الرّيح ورهنت مستقبل البلاد إلى عقود قادمة. ومع قدوم الرّئيس عبد المجيد تبون إلى سُدّة الحكم، بدأت التّخمينات تذهب بأولئك الخبراء كلّ مذهب، لمعرفة المقاربة التي سيتبعها لتجسيد وعده الانتخابي، العمل على استرجاع الأموال المنهوبة، من رجال أعمال كانوا مقرّبين من السُّلطة السّابقة - العصابة والقوى غير الدّستورية، وفق تعبير رئيس الأركان ونائب وزير الدّفاع السّابق، المرحوم قايد صالح، تمّ نهبها بشتّى الوسائل والحيل، تراوحت بين مشاريع اقتصادية غير حقيقية، وبعضها غير منتج، صفقات غير قانونية وقروض فلكية بدون ضمانات، من دون إغفال الفضائح المالية لتبييض تلك السّرقات على غرار فضيحة خليفة وسوناطراك 1 و2 يقبع بسببها، الآن عشرات من هؤلاء الناهبين للمال العام ومن سمح لهم، بل سهّل لهم ذلك من رجال السُّلطة (رؤساء وزراء، ولاة "محافظي مدن" مسؤولين ومدراء على كلّ المستويات في الإدارة المركزيـة والمحلّية) في السّجون، عقب محاكماتٍ لم تكشف كلُّها على حجم المال المنهوب، وكل مقاربات سرقته، ولا المكان الذي توجد فيه تلك المليارات، بحكم أنّ جزءا كبيرا منها تمّ تهريبه إلى الخارج.
تتحدّث بعض الدول العربية بعد الربيع العربي عن صعوبة الوصول إلى حصر حجم المال المنهوب أو القدرة على استرجاعه من الخارج
تحاول السُّلطة، في الجزائر، القيام بما يشبه ما سعت بعض الدُّول العربية التي عانت من سيطرة طغمة حاكمة على السُّلطة فيها ونهبت المال العام، وبعد انتفاضات في العام 2011 و2019 (موجتا الربيع العربي الأولـى والثانية)، إلى القيام به لاسترجاع ذلك المال المنهوب من خلال متابعات قضائية، طلبات للبنوك العالمية لحصره ثمّ حجزه، إضافة إلى غلق عشرات الشّركات ومصادرة العقارات، في الدّاخل، من دون أن يصل ذلك إلى المرغوب من الحصول على ما تمّت سرقته، بل ما زالت كل تلك الدُّول، بعد حوالي عقد، بالنّسبة لتلك التي شهدت الموجة الأولى من الرّبيع العربي، تتحدّث عن صعوبة الوصول إلى حصر حجم المال المنهوب أو القدرة على استرجاعه من الخارج، بالنّظر إلى تعقّد الإجراءات القانونية وضبابية القوانين المالية في الملاذات الضريبية وحتى في بعض الدول الأوروبية وأميركا. كما كان لبعض الدُّول مقاربة التصالح أو التّسويات الودية مع أولئك النّاهبين للمال العام تمكّنت من خلال من استرجاع جزء من المال المسروق، وليس كله، لتكون العملية، بعد التدقيق فيها، محاطة بصعوبات قانونية ومالية كثيرة، إضافة إلى جزء خاصّ بما قد لا تقدر تلك التّسويات على القيام به أو تحقيقه، وهو كيفية تعويض حجم الفرض الضّائعة على الدُّول العربية من جرّاء نهب ذلك المال، وتداعيات ذلك على التّنمية بكلّ أشكالها.
بعد عرض عملية التّسوية الوُدّية لاسترجاع المال المنهوب وتجارب الدُّول العربية بشأنه، نصل إلى الإجراء الذي أفصحت عنه الحكومة الجزائرية في مخطّط عمل الحكومة الجديدة، للوزير الأوّل أيمن بن عبد الرحمن، وهو الإجراء الذي يمكن النّظر إليه من جوانب عديدة، منها ما هو إيجابي، وهي قليلة، ومنها ما هو سلبي، وهو ما يحاول الكاتب الإشارة إليه، هنا، في نقاط.
من سلبيات السّعي إلى التّسوية الودية مع النّاهبين للمال العام التعلّم من تجارب الدول التي قامت بذلك، ولم تنجح إلا في استرجاع جزء يسير منه
بالنّسبة إلى ما هو إيجابي، يمكن النّظر إلى المقاربة على أنّها محاولة لإصلاح الوضع، وإبراز أن السلطة تحاول، ما وجدت إلى ذلك وسيلة، الوصول إلى استرجاع تلك الموارد، قصد استخدامها في المجالات التي كانت قد رُصدت لها، ابتداء، أي التّنمية في زمنٍ شحّت فيه الموارد المالية، وهي، على قلّتها، أي حجم المال المُحتمل استرجاعه، إلا أن ذلك يسدّ جزءا من العجز، ويبرز أنّ يد السّلطة تضرب بشدّة وصرامة لكلّ من يقترب من المال العام لنهبه أو التّلاعب به، أيّا كان، وأيّا من يسهّل له ذلك.
من سلبيات السّعي إلى التّسوية الودية مع النّاهبين للمال العام التعلّم من تجارب الدول التي قامت بذلك، ولم تنجح إلا في استرجاع جزء يسير منه، مع استمرار أقارب أولئك المجرمين (وأحيانا هم أنفسهم) من التّمتُّع بالمال المنهوب، العقارات والحسابات، يغرفون منها، بدون حسيب ولا رقيب، ومثال ذلك عشرات الحسابات المفتوحة في بنوك وملاذات ضريبية، إضافة إلى عشرات العقارات في المُدُن العالمية التي ما زال بعض الضّالعين في فضيحة سوناطراك (الشّركة النّفطية الجزائرية) يتمتعون بها، من دون أن تتمكّن المتابعات وعديد الطلبات القضائية الجزائرية، من إيقاف ذلك النّزيف أو الحصول على إمكانية القبض على أسماء معروفة ووجوه تتنقل بكل حرية بين دولٍ يقال إنها تقدّس حقوق الإنسان والحريات، لكنها تسمح للمجرمين بأن يتمتّعوا بالمال المنهوب، وهمهم هو تحصيل الضرائب، ليس إلا.
النّقطة الأهمّ كيفية المحاسبة على عملية نهب المال العام، من حيث أنّه عندما يُسرق فتسعى السُّلطة إلى استرجاعه
يمكن الإشارة إلى نقاط سلبية أخرى، لعلّ أهمّها، أيضا، أنّ ثمّة طبيعة هيكلية في منظومة الفساد، سمحت لأولئك النّاهبين من سرقة المال العام، لأنّهم ولجوا إلى ذلك النّظام من خلال فساد إداري وآخر سياسي وثالث أخلاقي صار ينخر البلاد. ومجرّد اتّخاذ مقاربة التّسوية الوُدّية لاسترجاع المال المنهوب من أولئك يعني إمكانية أن تبقى تلك المنظومة وتترسّخ، لتصبح هي القاعدة على حساب الكفاءة والنزاهة في الوصول إلى مناصب المسؤولية، حيث إن إقرار الذّمّة المالية جدّ مهم، لكن الرقابة على صرف المال العام ووجهته مع التّدقيق (المالي والتّسييري) في كلّ ما يتصل بتلك العملية من وجوب تعيين الأكفأ ومراقبة صرف المال العام بصرامة هي المقاربة الأهمّ، ولا يتمّ ذلك إلا من خلال أجهزة رقابية تمثيلية، وذات مصداقية، مع إعطائها كلّ الصّلاحيات في المراقبة، المتابعة والمحاسبة.
النّقطة الأهمّ، هنا، كيفية المحاسبة على عملية نهب المال العام، من حيث أنّه عندما يُسرق فتسعى السُّلطة إلى استرجاعه، فهي لا تعيد إلى الخزينة العمومية إلا المادي من المال أو جزء منه. أمّا ما تمّ تضييعه من فُرص للتنمية، بواسطة ذلك المال، باعتبار أنّه كان وسيلة لإقرار منظومة فساد ونتيجة لها، فهو المحك، وعليه الرّهان، لأن السلطة تريد القيام بما تتمكّن منه الآن. ولكن عليها أن تلتفت إلى أنّ ثمّة فرصا ضاعت على الجزائر، ولا يمكن أن تعود، حيث إنّ التريليون دولار، الذي قال الرئيس تبون إنّه نُهب، أو رقم قريب منه، في حديثٍ لإحدى القنوات، جاء في أعقاب ارتفاع أسعر النّفط في العقد الأول من الألفية الثالثة.
من الجيد أن تحاول القيام بما تستطيعه، لكن أن تقوم بالعمل مع تبعات الصرامة التي تشير إلى أيادي السلطة في الإصلاح
ومع ما يجري في العالم، الآن، وما نستشرفه في المستقبل (مناخيا وتكنولوجيا)، لن تعود تلك الأسعار إلى سابق عهدها من الارتفاع، إضافة إلى أن المجال الطّاقوي هو مجال الموارد التي تذهب إلى غير رجعة، أي عندما تُستهلك، فهي مخزون يقارب على النفاد، شيئا فشيئا، بمعنى أنّ الجزائر قد ضاعت عليها مواردُها، تنميتُها بل ورهنت مستقبلها بسبب منظومة الفساد وعلى التّسوية الوُدّية أن تضع، في حسبانها، أنّ الأرقام يجب أن تذهب إلى حجم المال المنهوب وحساب ما ضاع على البلاد من فرص تنموية لتضاعفها، مرّات ومرّات.
من الجيد أن تحاول القيام بما تستطيعه، لكن أن تقوم بالعمل مع تبعات الصرامة التي تشير إلى أيادي السلطة في الإصلاح، في إطار من تقديس للمسؤولية، تعيينا، ممارسة وكفاءة، من ناحية، وللمال العام، صرفا، مراقبة وتدقيقا، من ناحية أخرى، قصد الحصول على فرصة أخرى، تتيح لنا الوصول إلى أملنا في بناء مشروع قوة إقليمية في غرب المتوسّط، المغرب العربي والمنطقة السّاحلية – الصحراوية، وهو قدر الجزائر، لو عرفنا كيف نقوم بذلك .. مستقبلا.