عن الاتفاقية الأميركية - السعودية
تأخذ العلاقات الأميركية السعودية خطوات تتأرجح (أو تترجّح) لتعزيز تحالفاتها، في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة، ولتحقيق استراتيجية الولايات المتحدة بشأن تقويض نفوذ الصين وروسيا وإيران في مناورات كبرى تجري في الشرق الأوسط.
تتركّز الخطة الأميركية على مجموعة من الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية، تهدف إلى الحدّ من التمدّد الصيني والتدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية، بالإضافة إلى تشديد الخناق على روسيا. وعلى الرغم من التحدّيات التي تواجهها مثل هذه الاستراتيجية، إلا أن هناك إرادة تصميم على التعاون والتحرّك الجماعي لمواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية. لكن الاتفاقية الأمنية/ الخليجية، المشروطة بالتطبيع مع إسرائيل، قد تواجه مقاومة من قوى أساسية من المجتمعات العربية والإسلامية، ومن القوى الشعبية الممانعة للتطبيع. وتواجه بعض الدول العربية تحدّيات كبيرة في التوافق على القضايا، نتيجة تعقيدات المصالح الإقليمية المختلفة، وحيث عادت القضية الفلسطينية إلى قلب الشرق الأوسط لتحتل العالم، وتسبق التطبيع والأمور الأخرى. ولم يعد هناك من يشكّل خطراً على مسارات الانتماء إلى الموضوع الفلسطيني. يشكّل هذا كله قاعدة صلبة في البحث الجدّي عن حل يريح الشعب الفلسطيني، ما يشكّل قاعدة عامة لمعالجة خطورة الحرب في أوكرانيا، حيث تخسر أوروبا نوع حياتها وثقافتها، أو الدخول في حرب جديدة في تايوان، ولا بد للمجتمع الدولي من أن يتقدّم في مسار آخر لمنع حرب عالمية ثالثة.
يمكن لردود الفعل من إيران وروسيا والصين أن تعقّد تنفيذ بعض جوانب الاتفاقية في مرحلة رمادية تستقطب صراعات كبيرة على النظام العالمي الجديد، وتعاكس الاتجاه العام نحو الاستقرار والسلام في الجنوب وشيء من الالتزام مع شعوبٍ تعاني من فظاعة الأحداث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تملك السعودية القدرة على ميل الكفّة لصالح الاتفاقية، نتيجة التأثير الإقليمي، الذي يمنحها التأييد والدعم السياسي، ويمكن أن يعزّز الدعم الأميركي الاتفاقية من فرص نجاحها. وتروّج أميركا أن التطبيع مع إسرائيل يمكن أن يفتح الأبواب أمام فرص اقتصادية جدّية للدول المشاركة، تساعد في تعزيز الاستقرار الإقليمي، وكذلك التعاون العسكري بهدف تعزيز القدرة الدفاعية للدول العربية، وما يساعد في تحقيق التوازن الإقليمي مع إيران التي كانت قد استبقت خطوات التوقيع على الاتفاقية بعرض رؤيتها وبتحذير من أن "الاستقرار قد يكون بخطر بسبب التوترات في المنطقة". وفي زاوية تعكس الديناميات السياسية والاستراتيجية المتناقضة، وباستجابة للتصورات السياسية المتعلقة بالإعلان عن زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إليها كجزء من الدبلوماسية العامة والرد على المستجدات الدولية، فإيران تسعى إلى لعب دور أساسي في التسويات وإدارة الأزمات في استراتيجية أوسع لتعزيز تأثيرها في المنطقة. وفي المقابل، لا يبدو أن إعلان الزيارة يتعارض مع الاتفاقية الأميركية، بل يعكس توازناً في العلاقات الخارجية. ويعزّز التقارب الذي حصل مع إيران بوساطة صينية في مارس/ آذار 2023 الاستقرار في البحر الأحمر وإخراج المملكة والصين من الصراع على الخطوط البحرية. لكن الحسابات السعودية تنطلق من خشية أن طهران ما بعد غزّة قد تلجأ إلى التملّص من الضمانات الأمنية وزعزعة استقرار بعض الدول العربية.
قد يُستخدم أي تطور يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل عاملاً محتملاً للتأثير على استقرار السعودية وسياستها الخارجية
ينعكس هذا التردّد لدى الأطراف السياسية في اتخاذ خطوات أسرع، والسعودية تخاطر بإعادة إشعال الخلافات مع الإدارة الديمقراطية بالانحياز إلى روسيا، وفي استهداف مخزون النفط الاستراتيجي في وقتٍ يكافح الأميركيون لمكافحة التضخّم، أو الانخراط في تحالف روسي/ صيني ضد الغرب.
يتطلب الرهان السعودي على الوصول إلى وضع قوة إقليمية القدرة على المناورة، ليس فقط اقتصادياً أو عسكرياً أو دبلوماسياً في حقل من العلاقات الدولية صارت نياته مرئية. وينتهج محمّد بن سلمان سياسة خارجية أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، حين تسعى المملكة إلى موازنة علاقاتها مع أطراف دولية أخرى، لأن العلاقة تأتي معها من دون ضغوط لتحسين سجل حقوق الإنسان (في الصين نخب تحدّث شعبها، وليس انتخابات ديمقراطية وإعلام وصحافة). هل سيكون الشرق الأوسط قائماً على رؤية 2030 في الانفتاح والاستقرار والنمو، أم يقوم على الممانعة؟ والتطبيع مع إسرائيل قد يثير إشكالات معقّدة مع تحوّلها إلى دولة منبوذة عالمياً وقانونياً، خصوصاً في ظل الوضع الإنساني المتفجر في غزّة، وكسر حركة حماس هيمنة الردع التصعيدية، وترسيخ عداءات محيطة بالكيان المحتل لعنصريته وفاشيته، ما يجعل آفاق المرحلة سيّالة.
ثمّ من المهم للسعودية الحفاظ على استقرارها الداخلي لتعزيز دورها الإقليمي والدولي. لذلك قد يُستخدم أي تطور يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل عاملاً محتملاً للتأثير على استقرارها وسياستها الخارجية، ويتعين عليها الحذر في إدارة التحرّكات السياسية لضمان عنصر عدم الاستعجال. وفيما يتعلق بسياق خطّة بايدن المعلنة أخيراً، المتعلقة بوقف الحرب على غزّة، لا يبدو أن التنسيق بين البلدين يندرج مباشرة ضمن الخطّة التي تتركز على تقديم الدعم الإنساني، ومحاولة تحقيق وقف مؤقت لإطلاق النار للسماح بدخول المساعدات. لذلك تواجه السعودية تحدّيات كبيرة في موازنة علاقاتها "غير الموثوقة تماماً، مع إدارة بايدن للحفاظ على موقعها ومصالحها، فالسعودية وروسيا تعملان معاً في مجموعة أوبك +، للتحكّم في إنتاج النفط الذي يمنحها نفوذاً واسعاً في أسواق الطاقة العالمية، فيما تسعى إلى توسيع شراكتها مع الصين في مجال التكنولوجيا والبنية التحتية (مجموعة اتفاقيات وقع عليها الرئيس شي جين بينغ في زيارته الرياض أخيراً).
يتيح تبنّي السعودية سياسات مرنة التكيّف مع مجمل التغييرات وبتفاعلية مع التجاذبات والتقلبات العالمية وتقرير التعاون مع الأطراف والدول المجاورة
من غير الواضح، ما إذا كانت السعودية تراهن، بشكل مباشر، على عودة الرئيس ترامب، أو نهاية الديمقراطية الحالية، سيما أن إدارة بايدن كانت قد اتخذت موقفاً حذراً وانتقادياً تجاهها، خصوصاً فيما يتعلق بقضية الصحافي جمال خاشقجي وحقوق الإنسان وحرب اليمن. كل نجاحات محمد بن سلمان الهادفة إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط من خلال مجموعة من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية غير ممكنة، إلا في بيئة إقليمية من الاستقرار لتعزيز ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين، ولضمان تنفيذها بنجاح من دون تأخيرات. ولا تزال الولايات المتحدة تعدّ شريكاً استراتيجياً، خصوصاً في مجالات الأمن والتعاون العسكري، وفي مجال مكافحة الإرهاب، والشركات والاستثمارات الأميركية تلعب دوراً كبيراً في تطور الاقتصادي السعودي.
يتيح تبنّي السعودية سياسات مرنة التكيّف مع مجمل التغييرات وبتفاعلية مع التجاذبات والتقلبات العالمية وتقرير التعاون مع الأطراف والدول المجاورة. لكن هناك نقاطاً حساسة جداً يجب النظر إليها عند مناقشة أي اتفاقية داخل المملكة، وهناك توزّع للقوى الأميرية، التي تمثل مصالح مختلفة. وهذا يمكن أن يؤثر بشكل كبير على قدرة المملكة على اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات والاصلاحات السياسية والاقتصادية، وبالتالي، يجب أخذ هذه الديناميات عند العوام والأجيال الجديدة بالاعتبار عند التفاوض على أي اتفاقية خارجية خطيرة مثل التطبيع، علماً أن العائلة الحاكمة تملك تاريخاً طويلاً من التماسك والقدرة على إدارة الصراعات.