عن البخلاء ومآسيهم
حفل التراث العربي بالقصص المضحكة عن البخلاء وطرق تطفلهم على الموائد ومدى جشعهم، من دون تعمّق في البعد النفسي لسلوكهم غير المشرف. لا يمكن، في أي حال، اعتبار البخل مجرّد صفة قبيحة منبوذة في الإنسان، لأنه، في واقع الأمر، مرض عضال، قد يكون موروثاً أو مكتسباً، لكن لا شفاء منه في جميع الأحوال، وهو الأصل لنقائص كثيرة وخصال ذميمة، لا تجتمع مع الشخصية السويّة الجديرة بالاحترام، بل من شأنه أن يهلك الإنسان، ويدمر الأخلاق، وهو كفيل بأن يجرّد صاحبه من كلّ الصفات الإنسانية النبيلة من شجاعة وعزّة نفس وشهامة ومروءة.
يعرّف علم النفس البخيل بأنّه "الذي يملك المال ولا ينفقه، حتى في المواقف التي تتطلب ذلك. ويرجع ذلك إلى خصلة التعلق، حيث يصبح جمع المال الهمّ الأول في الحياة". ذلك أنّ البخيل ليس إلّا عبداً ذليلاً للقرش، إذ تهون عليه كرامته، ويغدو شخصاً متطفلاً متكسباً فاقداً احترام الناس ومحبتهم. يظن نفسه ذكياً، حين يتهرّب من مسؤولياته بذريعة الفهلوة والشطارة، غير مدركٍ حجم الخسارة التي تلحق به، لأنّه في العادة متبلّد المشاعر، عديم الإحساس، لا يضيره لو تصدّق الآخرون عليه، ولو قام بالنصب والاحتيال في سبيل ألّا ينفق فلساً واحداً. وهو بالتأكيد لم يسمع بالمثل: "هين قرشك ولا تهين نفسك".
وتحت عنوان البخل، تندرج صفات قميئة مكروهة، مثل الأنانية والجبن والكذب والتردّد والخسّة والجحود، فينكر المعروف ويبيع العشرة ويتنكّر للخبز والملح. وقد يتخلّى بسهولة عن أولاده المنكوبين بأب متجرّد من مشاعر الأبوة الحقة التي تقتضي التضحية وإنكار الذات والعطاء بلا حدود، ذلك أنّه بخيل حتى بمشاعره، فلا يتحرّك ضميره الذاهب في غفوة عميقة تجاه حاجة الأبناء الطبيعية لوجوده في حياتهم، داعماً ومسانداً لهم في مرحلة حساسة من حياتهم، يتوقعون حضوره في تفاصيل يومية صغيرة، يتهرّب منها كي يتجنّب الإنفاق عليهم. وتعجّ المحاكم الشرعية بقصص مخزية تبعث على الاشمئزاز عن آباء بخلاء مقتدرين، تخلوا، عند الطلاق، عن مسؤولياتهم في تربية أبنائهم وتوفير كلّ احتياجاتهم المادية والعاطفية، فينشأ الصغار أيتاماً غير معلنين، على الرغم من عدم وجود شهادة وفاة رسمية ومراسيم دفن وعزاء حقيقية، تبيح لهم ذرف دموع الحزن والتحسّر، ثم المضي في حياتهم، مستسلمين لمصيرهم أيتاماً محرومين لا ينتظرون لمسة حب وحنان من أبٍ غاب تحت التراب، يزورون قبره في الأعياد، فتسيطر عليهم مشاعر الخيبة والخذلان والغضب والحرمان، ولا يملكون سوى أن يقارنوا أنفسهم بأقرانهم ممن منحهم الله آباء حانين عطوفين مسؤولين، يوفرون لأولادهم حقهم في الأمان النفسي والاستقرار العاطفي، فتتضاعف عند أولئك الصغار عاثري الحظ، وتتنامى حالة السخط في نفوسهم الغضّة غير القادرة على التعبير، ويتراكم لديهم الإحساس بالنقص وانعدام الثقة بالنفس وبالآخرين، ما يعرقل المسار الطبيعي المفترض لنموهم أطفالاً أصحاء نفسياً وذهنياً.
في العادة، تقرّر المحاكم الشرعية التي تسودها عقلية ذكورية بائسة مبالغ زهيدة لا تكفي الحدّ الأدنى من متطلباتهم المعيشية من غذاء وملبس وتعليم وعلاج. وهنا تجد المطلقة، من رجل بخيل يعبد القرش ويفضله على أولاده، نفسها أمام تحدٍّ كبير، كي تعوّض صغارها عن جبن طليقها وتخاذله، وتكرّس ذاتها بالمطلق لرعاية صغارها نفسياً وعاطفياً، وتعمل بأسنانها وأظفارها على تأمين قوت يومهم، علهم يتجاوزون حسّ الفقد والحرمان الذي سبّبه أب لا يستحق أن يحمل شرف اللقب. مثل هذه الأم المكافحة جديرة بالتقدير الكبير، لقدرتها على التصدّي والتحمّل في سبيل سعادة أبنائها، مضحّية بكلّ شيء من أجلهم. أما ذلك النموذج البخيل المتخاذل، فلا يستحق سوى الازدراء والتجاهل والنسيان، علاوة على شهادة وفاة رمزية صادرة من أرواح صغار مخذولين، ممن لم يتوانَ عن التخلّي عنهم بقلب بارد، وهي عقوبة عادلة لا ريب فيها.