عن الجوع الممتدّ قبل الحرب على غزّة وبعدها

06 فبراير 2024
+ الخط -

عندما كلّفني أحد الملاحق الثقافية لواحدة من الصحف العربية بكتابة مقالة مستفيضة عن "الجوع"، في يناير/ كانون الثاني 2016، وكانت حينها عدة مناطق سورية تحت الحصار والـ"تجويع"، ومنها مضايا، هالتني في أثناء البحث فظاعة المجاعات التاريخية، وما تركت خلفها على مدى عقود طويلة من آثار طويلة الأمد، عدا آثارها المباشرة التي قتلت الملايين، ومن الظواهر "السوريالية" الموجعة للضمير الإنساني التي مرّت معي أن هناك مناطق في الصين، مع الإشارة إلى أن الصين من أكثر المناطق التي مرّت في تاريخها بمجاعات كبيرة، يلقي سكانها التحية بعضهم على بعض عند الالتقاء بالقول: أرجو أن تكون قد أكلت جيداً اليوم. 
لطالما استخدمت سياسة التجويع في الصراعات لكسر شوكة الخصوم وإضعافهم، حتى لو كان الأمر سيصل، في النهاية، إلى قتل شريحة كبيرة من الشعب، وربما الشعب بأكمله، كما حصل في سورية وفي اليمن، ويحصل اليوم في غزة المنكوبة بحربٍ وحشيةٍ تشنها إسرائيل ودخلت في شهرها الرابع.
مشهد بعض الغزّيين وهم يعالجون "العلف" أو مادة الشعير المخزونة لدوابّهم من أجل صناعة الخبز "الفقير المهين"، يذكّر بما كانت الجدّات يحكين لأجيال النصف الثاني من القرن الماضي في مناطق سورية كثيرة عن المجاعة الكبرى، التي وقعت على الشعب في ما يسمّى "سفربرلك" عندما، في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، ضربت مجاعة مناطق واسعة من سورية التي كانت تشمل ولايتي حلب وبيروت ومتصرّفية جبل لبنان، في العامين 1915 - 1916، بسبب مصادرة الأملاك والمحاصيل من الحكومة من أجل الجيش العثماني المتحالف مع ألمانيا ضدّ جيوش الحلفاء، وفرار شباب كثيرين عاملين في الزراعة هرباً من أداء الخدمة العسكرية خلال الحرب، إضافة إلى ظهور أسراب كبيرة من الجراد قضت على ما تبقّى من المحاصيل، زاد عليها محاصرة السفن الحربية العائدة لفرنسا وإنكلترا شواطئ سورية وفلسطين ولبنان، لتمنع دخول الإمدادات والمؤن بكل أشكالها إلى القوات العثمانية، ما فاقم الجوع لدى الشعب، وكانت الجدات يحكين كيف كنّ ينبشن فضلات الماشية والبهائم لاستخلاص حبّات الشعير منها وغسلها وإعادة طبخها، هل تضاهي هذه السوريالية سوريالية "التحية الصينية" المذكورة أعلاه؟

دان مجلس الأمن استخدام التجويع سلاحاً في الحروب

أقرّ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالصلة بين الجوع والنزاع المسلح، ودان استخدام التجويع سلاحاً في الحروب، وذلك في القرار رقم 2417 في عام 2018. الذي اعترف فيه بالضرورة الملحّة لكسر الحلقة المفرغة التي تربط بين النزاع المسلح والجوع، وتطبيق المساءلة على الذين يستغلون الجوع لتحقيق مآربهم وغاياتهم الخاصة.
يبدو الكلام مطمئناً ومريحاً وواعداً، فيما لو أغمضنا أعيننا وصممْنا آذاننا عن كلّ القرارات التي اتخذها سابقًا وبقيت في الأدراج، أو ضربت فيها إسرائيل عرض الحائط، بل زيادة لو تناسينا عدد مرّات الفيتو التي استخدمتها روسيا بشأن المعابر في سورية وما جرّ على المنكوبين السوريين من ويلات الجوع، ولو بدأنا بالعد بالنسبة لما علينا تناسيه كي تطمئننا قرارات مجلس الأمن، فلن تتسع هذه المقالة.

شريحة واسعة من الإسرائيليين لا يروْن للفلسطينيين أي حقٍّ في فلسطين

عندما قالت زعيمة حركة الاستيطان في إسرائيل دانييلا فايس إن سكان قطاع غزّة سيرحلون إذا حرمناهم من الطعام، و"سيقبلهم العالم"، لم تكن تتحدّث بلسانها فحسب، بل بلسان شريحة واسعة من الإسرائيليين الذين لا يروْن للفلسطينيين أي حقٍّ في فلسطين، وربما في الوجود أيضاً، كما صرّح المتطرّف الإسرائيلي وزير المالية بتسلئيل سموتريتش: "لا يوجد تاريخ أو ثقافة فلسطينية ولا يوجد شيء اسمُه الشعب الفلسطيني"، و"المجتمعات الفلسطينية بحاجة إلى المحو". ويستبطن هذا التوجّه كلّ ممارسات إسرائيل منذ تأسيسها في حربها على غزة، على مستوى الحكومات وعلى مستوى الشعب، هذا ما يراه العالم من سلوك المستوطنين تجاه الفلسطينيين من اعتداء يصل إلى حد القتل والسطو على الممتلكات والإهانات الدائمة، بل حتى قطع الأشجار التي يعتمد عليها بعض الفلسطينيين في معيشتهم. ولعلّ منظمة "نحالا" الاستيطانية، التي انتمت إليها باكراً دانييلا فايس، مثال لعشرات غيرها، وهي منظمة تساعد الشباب الإسرائيليين في إنشاء بؤر استيطانية غير قانونية، ولو كانت من حيث المبدأ كل المستوطنات غير قانونية. وقالت، في المؤتمر الذي نظمّه حزب "القوة اليهودية" اليميني في القدس يوم 22 يناير/ كانون الثاني لترويج إعادة الاستيطان في قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية، وشارك فيه آلاف الإسرائيليين، من بينهم وزراء من اليمين المتطرف ونواب من الكنيست: إن مؤتمر الأحد يهدف إلى الضغط على الحكومة "للعودة إلى قطاع غزّة وإقامة مجتمعات على الفور". وأضافت أن "العرب لن يبقوا في غزة"، مضيفة "ولا حماس، ولا أنصار حماس". وهي التي ترى وضعَ المستوطنين، الذي تحسّن في عهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، "لا يُرضي طموحاتها وأحلامها وخططها". وتقول إن العالم، وخصوصا الولايات المتحدة، يعتقد أن هناك خياراً لقيام دولة فلسطينية، ونحن نريد التصدّي لهذا الخيار.

عملت الحكومات المتلاحقة لإسرائيل على حصار الفلسطينيين وتجويعهم بشتى الطرق

انطلاقاً من هذه الأساسيات، عملت الحكومات المتلاحقة لإسرائيل على حصار الفلسطينيين وتجويعهم بشتى الطرق، فالحرب الدائرة اليوم في غزّة لم توفّر كل البنى التحتية، ومنعت دخول المساعدات إلّا بالحد الأدنى الذي لا يسدّ الرمق، ضمن اشتراطات الاتفاقيات التي تحصل من أجل تحرير الرهائن، ويأتي بعدها اتهام إسرائيل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بأن من موظفين فيها شاركوا في هجوم 7 أكتوبر، ما دفع دولاً غربية، منها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا ورومانيا والنمسا، بالإضافة إلى اليابان، إلى اتخاذ قرار بوقف الدعم الذي تقدّمه إلى الوكالة، على الرغم من مكانتها الحيوية والضرورية في حياة الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة وخارجها، من دون أن ننسى أن الولايات المتحدة كانت قد قرّرت حجب 65 مليون دولار عن الوكالة، من أصل 130 مليون، بعد أن قوبل قرار الرئيس ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل بالرفض من الفلسطينيين وبعض الدول الإقليمية والأوروبية. أليس هذا القرار مساهمة في تجويع الفلسطينيين، خصوصا في غزّة؟

تمثل الحروب والصراعات المسلحة في أرجاء مختلفة سبباً رئيسياً وأساسياً للجوع والمجاعات

التجويع الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في غزّة حلقة من سلسلة طويلة، ربما تظهر بعض نتائجها الفورية على السكان، مع العلم أنه ليس من السهل إحصاء عدد الوفيات بسبب الجوع في ظلّ القتل الغزير وأعداد الضحايا الذي يفوق الوصف من ساكني غزّة، وفي ظل انهيار مستوى الخدمات التي تقدمها المستشفيات الباقية تعمل في حدّها الأدنى، وعدم قدرتها على تشخيص كل حالة وفاة بمفردها أمام الحالات الحرجة الملحّة، لكن من المؤكّد أن أعدادًاً كبيرة منهم قد ماتت بسبب الجوع. وإذا أخذنا ما أعدّ خبراء الأمم المتحدة كمعايير للمجاعة نقطة مرجعية، وهي أن تواجه 20% من الأسر على الأقل نقصاً شديداً في الغذاء مع قدرة محدودة على التعامل مع الأزمة، وأن يتجاوز عدد الوفيات يومياً وفاتين من كل عشرة آلاف شخص، فإنّ هذه المعايير متوفرة في غزّة بكل وضوح للعالم.
تمثل الحروب والصراعات المسلحة في أرجاء مختلفة سبباً رئيسياً وأساسياً للجوع والمجاعات، هذا ما وقع في سورية، وما زاده بحق الشعب السوري في كل المناطق هو العقوبات على سورية التي يدفع ثمنها الشعب بينما النظام باقٍ، ويقع اليوم في غزّة أمام أعين العالم، بينما يمضي الغرب، بغالبية دوله، في دعمه المتعاظم لإسرائيل التي يرى قادتها المتطرّفون من دينيين وعلمانيين، وجمهورهم معهم، أن "غزّة، البوابة الجنوبية لإسرائيل، ستفتح، وسينتقل سكان غزّة إلى جميع أنحاء العالم"، مثل "الأوكرانيين ذهبوا إلى مختلف بلدان العالم منذ بدء الحرب على أوكرانيا"، كما صرّحت دانييلا فايس، فهل الغرب شريك لأولئك الطغاة في سحق الشعوب بدءاً من لقمة العيش؟ يبدو الأمر على هذه الشاكلة، ولن يكون هناك حلّ لقضايانا مجتمعة، وما أكثرها، قبل أن ينتهي الغرب من إدارة صراعاته من أجل السيادة على العالم، فكم من مجاعة تنتظر شعوبنا في مستقبل الأيام؟