عن الصبر الاستراتيجي الإيراني
على الرّغم من فداحة خسائر ما يُسمّى "محور المقاومة والممانعة"، بعد تكثيف إسرائيل لنوعية عملياتها في لبنان وسورية والعراق، والتي ركّزت على استهداف كوادر وقادة ميدانيين عسكريين وأمنيين، وعلى الرغم من كل الدعاية الإيرانية ودعاية المليشيات التابعة لها، والتي تقوم على فكرة الحرب والتجهيز والتحضير لها، والحديث ليلاً نهاراً عن القدرات العسكرية، والرد والانتقام على أي عملية اغتيالٍ تطاول أياً من قادة هذا المحور، يبدو أنّ سياسة الصبر الاستراتيجي ستبقى سيّدة الموقف لدى راسمي السياسة في إيران، لمواصلة امتصاص الضربة تلو الأخرى، من دون ردّ معلن يناسب ما يتعرّضون له من عمليات نوعية متصاعدة.
يذكّر كلام مسؤولي النظام الإيراني عن الصبر الاستراتيجي كثيراً بكلام مسؤولي النظام السوري بعد كل استهداف إسرائيلي الأراضي السورية، وتوعّدهم بالرد "في الزمان والمكان المناسبين"، فرغم مرور سنواتٍ وتكرار الاستهدافات الإسرائيلية للأراضي السورية لم نرَ أي رد، وعلى ما يبدو أن إيران تنتهج النهج ذاته، فحتى تاريخه، ورغم تصاعد عمليات الاستهداف والاغتيال التي نفّذتها إسرائيل، لم نرَ أي رد استثنائي من إيران على عمليات الاستهداف والاغتيال تلك، حتى ردّها الأخير بقصف إدلب وأربيل وباكستان، والتي زعمت إيران أنّه جاء ردّاً على مقتل المسؤول عن وحدة إسناد ما يُعرف بـ "محور المقاومة" في سورية رضى الموسوي، فهو مجرّد رد فعلٍ لاستعراض العضلات، لكن في المكان الخطأ، وهو نهج النظام السوري الذي يقصف المناطق المحرّرة في الشمال السوري، بعد كل عملية استهداف إسرائيلي لمناطق سيطرته.
إيران، في الوقت الراهن، ليست في وارد تبديل طريقة تعاملها مع الملفات الإقليمية الأمنيّة التي تعنيها، والتي تدخُل فيها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ
وعليه يمكن وضع الرد الإيراني في إطار محاولة النظام حفظ ماء وجهه أمام شعبه ومؤيديه أكثر من كونه عملاً انتقامياً متناسباً مع خسارته أكثر من شخصية عسكرية وأمنية بارزة، ولو كانت إيران صادقة بما تقوله وتتوعّد به، لقصفت أهدافاً إسرائيلية مباشرة بدلاً من قصف إدلب وأربيل وباكستان، فهذه الهجمات جاءت بالمقام الأول لتبرير عجز النظام عن خوض حرب شاملة، وكذلك الإيفاء بالتزامه وتهديداته المليئة بالدعاية والوعود أكثر من الفعل. وبالتالي، لا يعدو كل كلام عن تصعيد إيراني ضد إسرائيل وأميركا كونه كلاماً بكلام، فإيران أضعف من أن تردّ وتصعّد ضد إسرائيل وأميركا، وخصوصاً في هذه المرحلة، فهي تُدرك تماماً أنّ تصعيدها أو ردّها المباشر، أو حتى توسّع رقعة الحرب إلى خارج قطاع غزّة سيضرّ بأمنها القومي أكثر مما سيضرّ بإسرائيل، لذلك لا نرى ردّاً إيرانياً واضحاً وصريحاً بعد تلقّيها الضربات المتتالية في مواقع مختلفة وأماكن متباعدة، وهي دائماً ما تبرّر عدم ردّها بالتزامها الصبر الاستراتيجي، والذي يمكن وضعُه في إطار الارتداع والالتزام بقواعد اللعبة المضبوطة والتفاهمات حول حدود التصعيد والشحن في الملفات الخلافية التي تضعها أميركا وإسرائيل، ما يؤكّد المواقف السياسية الحقيقية للنظام الإيراني وعدم جدّيته في أي ردٍّ مباشر على عمليات الاغتيال والضربات الأمنية التي يتعرّض لها، في الوقت الذي يدفع وكلاءه في لبنان والعراق واليمن وسورية من المرتبطين بالحرس الثوري الإيراني لخوض المواجهات ضمن لعبة التصعيد المحدود والمدروس، في لعبةٍ أقرب ما تكون إلى لعبة عض الأصابع. وما يثير الدهشة والسخرية هنا في آنٍ معاً أنّ هناك قوى محسوبة على "محور المقاومة والممانعة" ما تزال تُراهن على جدوى استراتيجية الصبر الاستراتيجي التي تتبعها إيران، والتي يبدو، حسب الواقع، أنّها غير محدّدة بأهداف ووسائل وأدوات وفترة للانتهاء من الإعداد لها وبلوغ نتائجها.
ختاماً، يمكن القول إنّ إيران، في الوقت الراهن، ليست في وارد تبديل طريقة تعاملها مع الملفات الإقليمية الأمنيّة التي تعنيها، والتي تدخُل فيها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، فعقيدتها الأمنية تُركّز، في سبيل ضمان استمرار النظام الحاكم وبقائه والحفاظ على أمنه، على نقل القتال إلى أراضي العدو، وإنشاء حزام أمني خارجي لمنع وصول التهديدات إلى العمق الإيراني، لذاك ستبقى إيران تعمل بمرونةٍ وصبرٍ على توظيف التطوّرات الإقليمية والجيوسياسية لإيجاد الفرص واستغلالها عبر السير قرب الحافّة من دون تجاوز الخطوط الحُمْر، سعياً إلى أن تصبح قوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وبذلك سيطول صبرها الاستراتيجي في سبيل تحقيق ما سبق بانتظار تغيّر المناخ السياسي، أو تبدّل حالة الخصم، ومن يراهن على نفاد الصبر الاستراتيجي الإيراني إزاء الضربات الموجعة التي تتلقّاها في إيران وسورية والعراق ولبنان في القريب العاجل، فهو واهم، فالصبر الاستراتيجي الإيراني باقٍ ومستمرّ وسيطول أمدُه، ولن يغيّر ملامحه، ولن تكون هناك أي حرب طويلة أو واسعة، طرفها إيران، ضمن لعبة الاستراتيجيات النفعية المصلحية في المنطقة، والتي ما زالت إيران تعرف كيف تلعبها، وتوظّف وكلاءها في العراق وسورية ولبنان واليمن، ليكونوا أدواتها ضمن هذه المواجهة الأمنية المحدودة والمدروسة والهادفة.