عن القيادات والفرص الضائعة في الإخوان المسلمين
بعد ترقّب للتغيرات المتوقعة داخل صفوف جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بعد اعتقال القائم بأعمال مرشد الجماعة، محمود عزت (76 عاما)، منذ سبع سنوات، في 28 الشهر الماضي (أغسطس / آب)، اتخذ نائب المرشد العام إبراهيم منير (83 عامًا) قراراتٍ من شأنها إحداث تغييرات هيكلية، تعيد وحدة الصف الإخواني بعد خلافاتٍ عصفت بالتنظيم منذ فبراير/ شباط 2014. ووفق ما تواتر وانتشر عبر حسابات ومواقع إلكترونية قريبة من دوائر إخوانية، تم اتخاذ قرار بشأن إلغاء منصب "الأمين العام للجماعة" الذي يتولاه محمود حسين (73 عاما) منذ عشر سنوات، برز في هذه القرارات اسم حلمي الجزار (68 عامًا)، والمُفرج عنه بشكل مفاجئ عام 2014، ضمن لجنة إدارية عليا فيها عدد من رموز الجماعة، ويرأسها نائب المرشد، إبراهيم منير، تكون إحدى مهامها لملمة الصف الإخواني المشتت. بعدها أعلنت الجماعة تولي منير منصب القائم بأعمال المرشد العام لإخوان مصر، ليكون أول من يتولى المنصب من خارج الأراضي المصرية، على الرغم من حرص السردية الإخوانية سبع سنوات تولّى فيها عزت المسؤولية على تأكيد أن الجماعة تُدار من الداخل، لا من الخارج.
وعلى الرغم مما أحدثته هذه القرارت من إثارة للدوائر المهتمة بجماعة الإخوان المسلمين، والقريبين منها والمختلفين معها، والمنتسبين السابقين وشبابها الواقفين على حافة التنظيم، والباقين من المنتفعين منه، ما ينم عن حضور بقاء التأثير الإخواني، إلا أنها قرارات تبقى في حدود المعارك الدائرة بين شيوخ الجماعة وكبار السن في التنظيم، غاب عنها حضور عنصر شبابي واحد يُولّى الأمر، لا يُوظّف ضمن جنود منظمة مهامها تنفيذ القرارات والإذعان لوصايا السمع والطاعة قبل الفهم!
يستدعي الأمر هنا تسليط الضوء على أزمةٍ "الجيل الثالث" في تراتبية تنظيم الإخوان المسلمين الحالي، فالجيل الأول قيادات عاشت أزمة الجماعة أيام الرئيس جمال عبد الناصر، والثاني شبّوا بالتنظيم في عهد المرشد السابق عمر التلمساني، وصعدوا بالتنظيم إلى لحظة ثورة يناير. أما الجيل الثالث داخل الجماعة الذي تكوّن وعيه السياسي بعد ثورة يناير، والتحق أغلبه بالجامعات في فترة شهدت تحولاتٍ سياسية واجتماعية جذرية في التاريخ المصري، شهدت أعلى صعود للجماعة في تاريخها، لتتولى السلطتين، التشريعية والتنفيذية، بعدها مرّت الجماعة بأقوى حملة اجتثاثية قادها نظام سلطوي مستبد ضد الجماعة في تاريخها. صنعت التحولات هذا الجيل الذي لم تتم الإشارة إليه داخل الجماعة بشيء، من الاحتجاج والقمع الذي شمل المعتقلات والمنافي، إلى تولّي مسؤوليات محدودة صنعتها فرصة غياب القيادات "التاريخية" عن بعض الملفات جرّاء القمع الذي استهدف رؤوس التنظيم وقيادات الصفين، الأول والثاني، بعد فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية صيف 2013، استطاع "الجيل الثالث" أن يقود العمل الطلابي فترة تعدّت العامين، ظهر من خلالها فهمه استراتيجية النظام، وكيف يستوعب القمع، وكيف يتغلّب على ذاكرة الاستقطاب الحاد الذي سبق الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، بمدّ يد العون للتعاون مع القوى السياسية الأخرى داخل الجامعة، ما أطال من أمد الحراك الطلابي الذي قاده طلاب "الإخوان" وحدهم عامين بعد الانقلاب. بعبارة أخرى، تبنّى الجيل الثالث خطابًا سياسيًا منفتحًا أكثر من الخطاب السياسي الرسمي للجماعة التي انفصلت بعد ذلك إلى جماعتين، تبنّى كل منهما خطابًا غير واقعي.
تبنّى الجيل الثالث خطابًا سياسيًا منفتحًا أكثر من الخطاب السياسي الرسمي للجماعة التي انفصلت بعد ذلك إلى جماعتين، تبنّى كل منهما خطابًا غير واقعي
كانت هذه الفرصة برهانًا لهذا الجيل على تردّي سردية القيادات التاريخية والتنطيمية للجماعة التي ادّعت كثيرًا لياقتها لقيادة الجماعة، بفقه المحنة والنوازل والسرية، وتقديم الأيديولوجي على السياسي، وتقديم الحفاظ على التنظيم على أي شيء آخر. سرعان ما تدخلت هذه القيادات، بعدما استفاقت من الصدمة، وأعادت تنظيم صفوف الجماعة، وفق رؤيتها، مرة أخرى لتربك من الداخل استراتيجيات الحركة الطلابية ومناطق نفوذ هذا الجيل من شباب الجماعة، ومن ثم تكوّن عاملًا غير القمع، أدى إلى أفول هذه الحركة، وإنفاذ القمع إلى داخلها، بسبب الخلافات التنظيمية العاصفة، وتخوّفهم من تغوّل سلطة هذا الجيل على سلطة القيادات التاريخية للجماعة. ومن بعد ذلك أُغلق المجال العام كما أراد نظام عبد الفتاح السيسي، وضاعت الفرصة التاريخية من القيادة "التاريخية".
الجيل الثالث في الجماعة ضحية للخلافات التنظيمية العاصفة خارج مصر التي، وإن حفظت البناء التنظيمي شكليًا وبصفة مؤقتة، فإنها قد أصابته بحالة "موت سريري"
الجيل الثالث في الجماعة ضحية للخلافات التنظيمية العاصفة خارج مصر التي، وإن حفظت البناء التنظيمي شكليًا وبصفة مؤقتة، فإنها قد أصابته بحالة "موت سريري" كما يصفه خليل العناني، تولّت القيادات "التاريخية" مسؤولية إخماد سلطة هذا الجيل، وتسريبه بعيدًا عن الجماعة، وتسهيل انشقاقه التنظيمي، وادّعاء تبنيه أطروحات العنف والخروج عن النهج السلمي للجماعة، على الرغم من أن بعضا من هذه الأطروحات (أصفها بالثأرية) نظّرت لها بعض القيادات، ولم يلجأ الشباب إلى تبنّيها إلا بعد أن فشلت الجماعة في استغلال كل الفرص السياسية، لتنجو من بطش القمع أن "تتخذ خطوة للوراء" أو "تتجرّع السمّ"، فشلت القيادة براغماتيًا وسياسيًا في ظل "تاريخيي الجماعة" المتمسّكين بمناصبهم (وما زالوا) من دون الالتفات إلى هذا الجيل الذي تسرّب ولم يعد، حتى يضمن لها الاستمرارية التاريخية، ما يدل على قصر نظر هذا الصف من القيادات، على الأقل في الحفاظ على استمرارية تنظيمه، أو ترك قُمرة القيادة لهذا الجيل.
أضاعت الحركة المعلنة أخيرا فرصة "تاريخية" لضمان استمرارية الجماعة، وإمكانية إحداث تجديد فكري هو المطلوب حاليًا
أصيب هذا الجيل بأزمة موارد حالت دون ظهوره للعلن، أو إعلانه عن ذاته، أو التكتل في شكل تيار قد يقدّم أطروحات جاذبة، قُمع من النظام المستبد فسجن ونُفي، ولم يلق دعمًا ولم يراهن عليه أحد، ولا يملك نوافذ إعلامية يظهر منها، أو شبكات اجتماعية تعاضدية يستطيع من خلالها النفوذ إلى داخل التنظيم، إلا أن ما يمتلكه هذا الجيل هو الوعي الفردي الذي لامسته من كتاباتٍ تُنشر بشكل فردي على مواقع التواصل الاجتماعي، وأحاديث ومقابلات أتت في سياق أعمال بحثية، أو رسائل السجون التي خرجت عن شباب ينتمون ل "الإخوان"، اتهمتها قيادات التنظيم بأنها عمل مخابراتي، دونما أدنى تعاط مع فحواها! فتارة من قمع وتنفير داخل التنظيم وتارة من التجاهل من خارجه.
أضاعت الحركة المعلنة أخيرا داخل التنظيم فرصة "تاريخية" لضمان استمرارية الجماعة، وإمكانية إحداث تجديد فكري هو المطلوب حاليًا، لتخرج الجماعة من حالة العطب الفكري المصابة به، والذي لا يسمح لها بتوسيع خيالها السياسي أو إحداث تجديد فكري معطّل منذ زمن، كان من الممكن أن تحدث، لو أسندت الجماعة قيادتها إلى "الجيل الثالث" من شباب الإخوان المسلمين.