عن الكبت الجنسي سبباً للاغتصاب
ثمّة من وجد تفسيراً لفضيحة رجل الدين اللبناني، الأب منصور لبكي، الجنسية، المعروف باغتصابه نزيلاتٍ في ميتمٍ خيري رعاه في فرنسا في أثناء الحرب الأهلية (1975-1990) فقال إنّ الأب لبكي، مثله مثل رجال الدين الكاثوليك، كان ملتزماً العزوبة طوال حياته. أن يبقى عفيفاً، مكرِّساً نفسه لشؤون الروح وحسب. ويتابعون أنّ فرض العزوبة هذا ليس "طبيعياً" خصوصاً بالنسبة للذَكر، الذي تلحّ عليه هورموناته الطبيعية لممارسة الجنس. فالأب لبكي في نظرهم معذور، قام بما يقوم به عادة المحرومون من متعة الجنس. وبالتالي، الحلّ الأمثل لملف فضيحته، ولنظرائه، أن تصدر الكنيسة قراراً بحرية زواج رجالها.
أما الحال، فليس كذلك تماماً. قضية الآباء المغتصبين ليست سوى صفحة من صفحات الفضائح الجنسية التي تطاول بيئات ومجتمعات لا تعاني من الحرمان الجنسي على الإطلاق. صفحات تشبه الانفجارات البسيطة المبعثرة هنا وهناك، والتي لو جُمعت لصارت برهاناً على التوحّش الذي يدير العلاقة بين الجنسين. خذْ الأمثلة الأبرز لهذه البيئات:
في البيئة الفنية الهوليوودية، حيث لا مكان للتعفّف، الجنس فيها غبّ الطلب. ومع ذلك، صدّرت هذه البيئة أقوى فضائح الاغتصاب منذ بضع سنوات. ليس بطلها عامل نظافة مقهوراً، مفلساً، محروماً... إنما هارفي وينستين، ملك الإنتاج السينمائي الهوليوودي، ومقرّر مصائر النجوم والنجمات. ملكٌ من الطراز السلطاني. يتناول الشابّة الطامحة إلى دور، ويغتصبها بطريقةٍ من الطرق، عربوناً لدور تطمح إليه. لا تستطيع أن تحصر عدد أولئك الشابات. بالعشرات. من المحاكم تتدفّق شهاداتهن بوتيرة عالية، ضجّ بها الإعلام. وكان من نتيجتها إطلاق حملة "مي تو" على المستوى العالمي، التي تلاحق المغتصبين في مجالات السينما وغيرها. وينستين معاقَب الآن. يقبع في السجن، لثلاثة وعشرين عاماً.
البيئات التلفزيونية، والثقافية، والعائلات الميسورة، المرموقة، المتعلمة، وأسماء لامعة .. كلّها مصابة بلوثة الاغتصاب
في البيئة السياسية، حيث الرجال يتمتعون أصلاً بجاذبية خاصة، تجعل النساء يحمْن حولهم "مثل الذبُاب" (العبارة لسيسليا ساركوزي، بعدما تبوأ زوجها وقتها منصب وزير الداخلية، قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية). أي أنّهم ليسوا هم أيضاً من الفئة "المحرومة". مع ذلك، لا تنتهي الإخبارات عنهم أمام المحاكم. فقط نتوقف هنا أمام حالةٍ جلْجلت في فرنسا وأميركا منذ عشر سنوات. وبطلها دافيد ستروش خان، المرشّح اليساري لرئاسة الجمهورية بوجه ساركوزي اليميني، واغتصابه عاملة تنظيف في أحد فنادق نيويورك، واتهامها له، ومحاكمته، ودخوله السجن، وبعد ذلك، انسحابه من السباق الرئاسي، مكلَّلاً بعار أفلتَ الألسنة عن محاولاته السابقة لاغتصاب فلانَة وعلاّنَة ..
في المجتمعات المخملية التي تملك كلّ إمكانات التلذّذ بالمتع، بدأت منذ يومين، محاكمة إحدى بطلاته في محكمة نيويوركية. وذلك بعد عامين على انتحار شريكها وصديقها جيفري أبشتاين. والقصة أنّها كانت تدير معه شبكة استعباد مراهقات تائهات. تساعد شريكها على "التقاط" واحدة منهن. تعدها بأنّها سوف تنقذها، تحلّ مشكلاتها، فتجلبها إلى صديقها جيفري، الذي يغتصبها ويرميها في "سوقه" المخفي. سوق عبودية جنسية عصرية شديدة الإحكام. ومن بين "زبائنه" الأمير أندرو، ابن الملكة البريطانية إليزابيث الثانية. وجيفري أبشتاين انتهى منذ عامين منتحراً في زنزانته، أو مقتولاً على يد متورّطين في شبكته من أصحاب نفوذ، كما تقول أخبار أخرى محتملة.
في عالم الرياضة، حيث يجب أن يكون الجسم سليماً، ليسْلم معه العقل، تتعرّض طفلاتٌ ومراهقاتُ لأشكالٍ من التحرّش، تبلغ، في حالاتٍ عديدة، مبلغ الاغتصاب، وعلى يد مدرّبيهن. أولى المبادِرات إلى عدم السكوت، هي بطلة التنس الفرنسية، إيزابيل دومونغو، وقد تعرّضت لتحرش واغتصاب على يد مدرِّبها. ورفعت عليه قضية منذ أعوام. لكنّ الجديد، في هذا المجال، قصة بطلة الصين في التنس بينغ شواي (35 عاماً). وقد نشرت منذ أيام على شبكة "ويبو" الصينية مقطعاً، تتهم فيه نائب رئيس الوزراء السابق، زانغ غاولي (75 عاماً)، باغتصابها. بعد عشرين دقيقة من نشره، وتسجيله ستة وعشرين مليون مشاهدة، اختفى هذا المقطع، ومعه بطلته (لا يقتفي أثرها الآن غير الإعلام الغربي).
البيئات التلفزيونية، والثقافية، والعائلات الميسورة، المرموقة، المتعلمة، وأسماء لامعة .. كلّها مصابة بلوثة الاغتصاب. لا تسع هذه المقالة لمزيد من الأمثلة عنها. المهم أنّ البيئة "غير المحرومة" ليست أكثر طهارة من البيئة "المحرومة" "المعذورة" بأسبابها "التخفيفية". ويكون السؤال الذي لا بد منه: هل كان اغتصاب النساء قائماً بهذه الغزارة في العصور الماضية، كما هو اليوم، فيما نحن لم نقرأ عنه، ولم نسمع به، إلّا الآن؟ والجواب واحد من الاحتمالين:
إما أنّه كان منتشراً، وفي المجالات كافة، لكنّ السكوت العام عنه كان هو القانون، هو العقلية. أي أنّ أجساد النساء كانت منتهكة على طول الخط، بصفتها حصتهن "الطبيعية". قدر من الأقدار، لا مهْرب منه. وذلك أنّ صوت النساء، حاجاتهن، وجعهن الداخلي... لم يكن لها وجود. كنّ الجنس الأضعف، الأعزل من كلّ سلاح، إلّا سلاح الإغواء الذي "يفسّره" كثيرون أصلاً بصفته "دعوة" إلى الاغتصاب.
كلما اكتسبت النساء حرية تمكّنّ من محاسبة مغتصبيهن ومحاكمتهم قانونياً وإنزال العقوبات عليهم
مجال واحد كان مستَثْنى من السكوت عن الاغتصاب، كما تنقل لنا كتب التاريخ: هو مجال الحرب. في كلّ الحروب، فتوحات، غزوات، انتصارات .. كانت أجساد نساء المهزومين أول ما يُنتهك. ثم تصنيف وضعية ضحاياه بصفتهن: سبايا، غنائم، عبيداً، جواري، ما ملكته الأيمان.. وفي أوضح الأحوال "حلالاً" على المنتصرين. وفي العصر الحديث، اشتهر اغتصاب مليوني ألمانية على يد جنود الجيش الأحمر السوفييتي، المنتصر، في نهاية الحرب العالمية الثانية. وهي من الارتكابات التي دفعت الأمم المتحدة إلى صياغة المادة الرابعة عشرة لاتفاقية جنيف عن أسرى الحروب، والتي تنص على واجب احترام الأسيرات من النساء "بكلّ الاعتبار الواجب لجنسهن"، وعلى "مساواتهن بالرجال بحسن المعاملة".
إذاً، إما أنّ الاغتصاب كان شائعاً مألوفاً في الماضي، أو أنّه ظاهرة معاصرة. ابنة التطوّرات. ليست التطوّرات التي لا يتوقف المستبدون الشرقيون عن إلقائها على كاهل الغرب وحريته وفرديته ومثْليته، وانفلاته على استهلاك الجنس .. إلخ. وإنّما تطوّرات تخصّ النساء بالذات، أعطتهن الكلمة والمكانة، التي لم يكنّ يتمتعن بها قبل هذا الصعود، أي قبل مائتي عام، عندما بدأت تصعد النساء في الغرب، تزامناً مع نهضته وثوراته، فصار الفرق الآن عن أمس، أنّه يتم الكشف عن الاغتصاب، وبوتيرة كثيفة، لا تكاد تلحق أخبارها.
لو افترضنا، مجرّد افتراض، أنّ الاحتمال الثاني هو الصحيح، أي أنّ الاغتصاب في الماضي كان مقتصراً على ساحات الحروب، فعلينا التزوُّد بالحجة. وهي ليست مخفيةً تماماً. إنما هي من صلب المشهد العام، وقد غزته النساء، ولم تبقِ على مجالٍ من مجالاته إلّا واحتللنه، مهما كانت درجة مناعته. بعد المجالات، وبرفقتها، تطلع أصوات النساء، ونصوصهن، وكل ما يمكن أن نتصوّر من شكاوى ضد العهود الظالمة. إنه عصر النساء، والذي ينذر بتحطّم سلطة الرجال هذه. وعمر هذه الأخيرة عشرات آلاف السنين، فيكون "ردّ الرجال" على هذا الاختلال في ميزان القوى بأن ينتقموا باستباحة أي جسد نسائي. كأنهم في حرب، حيث قانون المنتصر هو الاغتصاب. حيث يتلبّسون شخصية المحارب المنتصر. فتكون الصيغة المضْمرة في أعمق أعماقه: "تريدين حرية!؟ تريدين أن تكوني أينما كان؟! هاه، خذي حريةً بالقدر الذي تسْتحِقين!".
لم نسمع في العالم العربي عن محاكمة أيّ مغتصب، أو معاقبته. نسمع "الأخبار" عنه، أو الشائعات
طبعاً، هذا الانتقام ليس مصاغاً بهذا الوضوح، وربما ليس واعياً أيضاً. يؤيد هذه الحجّة تزايد الجرائم ضد النساء، خصوصاً الزوجات أو الخطيبات أو الشريكات. وهذه على الأرجح من الجرائم التي لم تعرفها عهود السيطرة الذكورية (إلا في جرائم "الشرف"). أما غالبية الدوافع على هذه الجريمة، فتعود، باعتراف مرتكبيها، إلى رغبة الزوجة أو الشريكة، بالانفصال أو الطلاق. عكس العهد السابق، حيث قرار الطلاق، أو الهجران، بيد الرجل وحده.
وكلما اكتسبت النساء حرية تمكنّ من محاسبة مغتصبيهن ومحاكمتهم قانونياً وإنزال العقوبات عليهم. وكلما حوكم مزيد من الرجال ارتفعت درجة تحدّي المحاكمات والعقوبات. نوع من الحرب في العلاقة بين الجنسين، في العهد النسوي. لذلك، تتفاقم الفضائح وتتوالى. وتكاد أحياناً تكون خبراً "عادياً" من سمات العصر. لكنّ هذا كله يحصل في الغرب الديمقراطي، حيث بلغت النساء درجاتٍ عالية من التمكّن. مجرَّد مقارنة بين مصير بطلتَي التنس الفرنسية والصينية. بين نظام فرنسي، ديمقراطي، داعم لصعود النساء، ونظام صيني، تسلّطي، يحارب الحريات، لكنّه لم يستطع حجب ديناميكية النسوية الغربية، والتي يعتبرها في كلّ الأحوال "انحلالاً أخلاقياً".
لم نسمع في العالم العربي عن محاكمة أيّ مغتصب، أو معاقبته. نسمع "الأخبار" عنه، أو الشائعات. وفي مجالات تتفوق عدداً وتنوعاً على تلك التي تجتاح الغرب. نقص حاد في الحرية، غلبة اللسان المقموع، واستباحة للنساء. يرعى الثلاثة؛ المشايخ ورجال السياسة ونجوم الفروع المختلفة، فضلاً عن الرؤساء، كلّ ألوان "الاغتصاب". مع أنّه، مثل الصين، لم يحمِ العالم العربي نفسه من المزاج النسوي بما فيه الكفاية، فكانت أصوات هنا وهناك، خافتة، خجولة. لكنّها موجودة. لكنّها نابضة واعِدة.
والموضوع يكاد لا ينتهي ..