عن المجتمع المدني الجديد في الجزائر
تتسارع الأحداث السياسية، في الجزائر، على أعتاب الانتخابات التشريعية المرتقبة في يونيو/ حزيران المقبل، وترتقب السلطة والمعارضة/ الحراك، على حد سواء، الاصطفاف اللائق بالرؤية السياسية لتلك الانتخابات، وهو ما حدا بالسلطة أو النخبة السياسية المقرّبة من الأحزاب التي شكّلت نواة الحياة السياسية، في المرحلة السياسية السابقة، إلى إنشاء كتلتين من رحم المجتمع المدني الذي سيكون حامل راية النخبة السياسية القادمة التي ستعوّض النخبة الحالية، بما أن الهدف هو سياق تجديد النخبة في أفق قيادة العمل السياسي في الانتخابات والمؤسسات السياسية التي ستكون البديل للسياق السياسي البائد.
بدأت القصة في عام 1997، حيث وُلد حزب في الجزائر، وفي زمن سياسي أسرع من سرعة الضوء، في أشهر فقط، بلغ الرّشد السّياسي، ونال أغلبية برلمانية في اقتراعٍ شهد له القاصي والدّاني بأنّه كان من أفضح الانتخابات من ناحية مؤشّر التزوير العلني إلى درجة أنّ البرلمان، نفسه، بإيعازٍ من بعض المستقلين، فتح تحقيقا وعيّن لجنة انتهت إلى كتابة تقرير ما زال في الأدراج، لم يطلع على فحواه أو نتائجه أحد.
لولا خروج الجزائريين، في 2019، لاستمر بوتفليقة في الحكم، بعهدة خامسة، على الرّغم من وضعه الصحي الصعب
وعلى الرّغم من هذه الواقعة، بقي هذا الحزب يتجذّر داخل أروقة السُّلطة، وكان أحد ٍرأسي التحالف الرئاسي الذي ضمن للرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، الحكم من دون رقيب أو حسيب أربع عهدات (ولايات)، كانت وبالا على البلاد والعباد، كانت نصف الثالثة والرابعة بأكملها حكما من خلال إطار، بعد وقوع الرئيس السابق في مرض أقعده عن أداء مهامه، ولكن بتغطية من حزبي السُّلطة، جبهة التّحرير وحزب السلطة المعروف باسم التّجمّع الوطني الدّيمقراطي، استطاع البقاء في السُّلطة، ولولا خروج الجزائريين، في 2019، لاستمر في الحكم، بعهدة خامسة، على الرّغم من وضعه الصحي الصعب.
إذا كان الوضع بهذه الدّرجة من السّوء، وعرفنا مكمن المرض، فلماذا تسعى السُّلطة الجديدة إلى إعادة الأداء السياسي المقيت، ببناء ما بات يعرف بتكتل نداء الوطن، تشارك فيه جمعيات مدنية، ولكن في ثوب حزب جديد، ستكون له حصّة الأسد من مقاعد المجلس الشعبي الوطني ومحليات البلاد في الانتخابات المقبلة.
كانت هذه إشارة إلى درسٍ لم تتعلّمه السُّلطة، وتريد إعادته إلى المشهد السّياسي في لبوس المجتمع المدني، هذه المرّة، ولكن السّؤال الحيوي، هنا: هل يمكن أن يكون الشّأن السّياسي هيّنا، في عين السُّلطة، لتستمرّ في التّلاعب به دونما اهتمام إلى الشعارات التي رفعها الحراك، وعاد ليرفعها، بعد الهدنة الصحية، بسبب جائحة كورونا، والمنادية بتصفية النخبة السياسية القديمة، أشخاصا وممارسات، وهو ما لم يحدث، سواء بإعادة بعض وجوه النظام البوتفليقي إلى الواجهة، برسم التعديل الوزاري المعلن في فبراير/ شباط الماضي، أو من خلال إعادة السيناريو نفسه، إنشاء الحزب الإداري السلطوي، أي الاحتفاظ بالمضمون مع تجميل الشكل، فقط؟ يحتاج السّؤال إلى إجابة، ولكن ما سيعرضه المقال هنا مجرّد لمحات لصورة المشهد السياسي الجزائري المقبل، إذا استمر الإلحاح على بنائه بالشكل والمضمون المشار إليهما.
دعا محلّلون كُثُر، خصوصا بعد التوقّف الاضطراري للحراك بسبب كورونا، بعد تفكير عميق، إلى مأسسة الحراك وتنظيم نفسه، بكلّ أطيافه
بداية، يجب التّذكير، ثمّ الإصرار على أنّ المقدّمات تؤدّي إلى النّتائج نفسها، منطقيا، بما أنّ السّعي إلى إنجاح مسعى إنشاء هيئة سياسية يُراد لها أن تقوم مقام حزب الإدارة لربح معركة التشريعيات المقبلة، وكأنّك يا بو زيد... ما غزيت، كما يقال عند إخواننا المشارقة، لأنّ الحراك ودروسه الجارية لم تصل إلى الفهم والاستيعاب السياسيين، على الرغم من عشرات القضايا التي زجّت، من جرّاء ذلك، مسؤولين سابقين في السّجون، بفعل ممارساتٍ بدأت سياسية، ثمّ توسّعت إلى الفساد، لأنها لم تجد من يردعها عن تلك الممارسات التي كانت تجري تحت غطاء الحصانة السلطوية، لأنها من أرادت لها أن توجد، وسمحت لها بتلك التجاوزات التي صارت، بعد فترة، جسرا إلى حكم بدون حاكم، وتبرير لهدر مئات المليارات من الدولارات في مشاريع فنكوشية، بمرجعية عبارة الفنكوش، أي الوهم بلغة أهل أرض الكنانة.
دعا محلّلون كُثُر، خصوصا بعد التوقّف الاضطراري للحراك بسبب كورونا، بعد تفكير عميق، إلى مأسسة الحراك وتنظيم نفسه، بكلّ أطيافه، لخوض معارك انتخابية، سعيا منه، في إطار تسوية تاريخية، إلى ربح معركةٍ تليها معارك أخرى، تصبّ، كلها، في تدرجية إنجاز مشروع إصلاح النّظام السياسي في الجزائر، ليواجه، في حركةٍ سياسيةٍ هي من صلب شخصية النّظام السّياسي نفسه، بممارسة قديمة جديدة لإنشاء كتلةٍ هدفها، نهايةً، الدّفع به (الحراك) نحو الانطلاق، من جديد، من نقطة الصفر التي بدأ بها، ولكن، هذه المرّة، بارتفاع سقف عدم تصديق الحراك والجزائريين عموما وعود السُّلطة بإنجاز القطيعة الكاملة والتامة مع النّظام السابق وممارساته.
كما دعا حراكيون كثر، أيضا، إلى اليقظة، لتعهّد شعلة الحراك، حتّى يتمّ إنجاز ولو جزء من مطالباتٍ حلُم الجزائريون بأن تحدُث لتحرّك رتابة نظامهم السياسي، باعتبار ذلك مقدمة لمشروع أوسع، يرتقي بالبلاد إلى مصاف القوى الناشئة. ولئن لم يتحقّق إلاّ القليل، لكن الجميع يعلم أنّ الزّمن السّياسي للحراك فيه نوع من مجانبة الواقع الذي تعمل على أساسه توازنات الزّمن السّياسي السّلطوي الذي يدرس الأمور وفق معطياتٍ لها صلة بالاقتصاد، بالأمن، بالسّياسة، بالعلاقات مع الخارج وبتوازناته المؤسّساتية، أيضا. ولهذا، الحراك واقعي في رفع سقف مطالبه وواقعي في انتظاره نسبة استجابة السُّلطة لها. لكن، وهنا بيت القصيد، يعلم الحراك أن الزّمن السّياسي السُّلطوي ينطوي على محاولاتٍ تكتيكية لترتيب المشهد وفق توازناتٍ تكون نتائجها إبطاء عجلة التّغيير أو توقيفها، تماما، ما يستدعي استجابةً بتنظيم أعلى مستوى لفرض سعي إلى انتخابات نظيفة ونزيهة، وإن حاولت السُّلطة ربح المعركة بالمناورة على غرار إنشاء كتلة "نداء الوطن".
التغيير لن يكون سهلا وممكنا في زمن يسير، وكما أن هناك المناورة فهناك، أيضا، على الجانب الآخر، إمكانات الضغط
لا يمكن اعتقاد أن التسوية قد تحدث دفعة واحدة بل السياسة، كما أنها فن الممكن، فإن من أساسياتها المناورة، حتى إذا لم تكن بأدواتٍ لها الوزن والتأثير نفسهما لكننا نعلم، في بلادنا، بعد كل هذه العقود من السياسة الأحادية، أن التغيير لن يكون سهلا وممكنا في زمن يسير، بل كما أن هناك المناورة فهناك، أيضا، على الجانب الآخر، إمكانات الضغط، وخصوصا بالسعي إلى استخدام مضامين القانون الذي قال عنه رئيس الجمهورية إنه فتح الباب واسعا أمام التنظيم الحزبي والجمعوي بمجرّد التصريح، سعيا إلى تقديم أفضل الترشيحات للتشريعيات والمحليات المقبلة، كونها مناط شغل مقاعد في الغرفة العليا التي ستجدّد، حتما، بعد انتخابات المحليات.
وبما أنّ عبارة تسليم المشعل للشّباب ترددت كثيرا في خطاب السُّلطة، وبما أن الرئيس عبد المجيد تبون قال، في خطابه أخيرا، إنه سيوقع، قريبا، على مرسومين لإنشاء المرصد الوطني للمجتمع المدني والمجلس الأعلى للشباب، فان باب المنافسة مفتوح لمحاولة شغل الفضاء الحزبي والجمعوي لربح معركة الفضاء الذي سيكون مناط العمل السياسي المقبل، سواء على مستوى المجتمع المدني (الجمعيات) أو الأحزاب.
الخطوة الأولى لامتصاص مناورات السلطة اليقظة، ثمّ امتلاك موهبة وكفاءة عدم ترك الفضاء السياسي والجمعوي فارغا من أي تفاعل أو وجود
قد يكون هذا الكلام من معسول الأحلام، لكننا، في بلادنا، لا نملك غيره، حيث إنّ الخطوة الأولى لامتصاص مناورات السلطة هي اليقظة، ثمّ امتلاك موهبة وكفاءة عدم ترك الفضاء السياسي والجمعوي فارغا من أي تفاعل أو وجود، بحجّة أنّ أدوات النظام أقوى، فإذا امتلك وسائل الإعلام، مثلا، فالجميع يعلم، تمام المعرفة، مدى التأثير الذي يوفره الإعلام البديل، إذا استخدمه بوعي وذكاء أشخاص لهم مستوى ودراية بالخطاب السياسي، وبفن إدارة المعارك الانتخابية وشغل الفضاء الجمعوي والسياسي، في آن.
يحتاج الحراك، والجزائر عموما، إلى تأنٍّ في التّفاعل مع الزّمن السّياسي السُّلطوي، حيث إنّ العمل بردود الأفعال قد يشكل بداية الوقوع في الخطأ، في حين أنّ المبادرة هي أفضل مقاربة، لأن الجميع يعلم، الآن، أن خط السير المقبل هو التّشريعيات، وأن خوضها بقوة يستدعي شغل الفضاءين، السياسي والجمعوي، وهو ما لا يجب الغفلة عنه، وعاجلا، لأنه باب ولوج المؤسّسات والضغط، من داخلها، على مضمون التغيير ووتيرته، وفق مطالباتٍ كانت أحلاما. وقد تصبح، إن عرف الجميع التعامل معها بكفاءة، حقائق على أرض الواقع، وإنّ غدا لناظره لقريب.