عن بوتين بين زمنين
عندما يتعلق الأمر بالانتخابات الرئاسية في روسيا، يُتوقّع أن يكون لها تأثير كبير على المشهد السياسي الدولي، وعلى العلاقات الدولية بشكل عام، خصوصاً في ظل التوتّرات الجارية مع الغرب والتحدّيات الإقليمية المستمرة. وبالفعل، كما كانت قد أكدت كل التوقّعات، فاز فلاديمير بوتين بولاية رئاسية جديدة، في الانتخابات التي جرت منتصف مارس/ آذار الجاري، وهو الذي يتمتع، بعد مرور 25 عاماً على حكمه، بشعبية واسعة في بلاده، ويحظى بدعم قوي من النخبة السياسية والعسكرية، مع غياب أي منافسٍ حقيقيٍّ له.
وشغل بوتين منصب الرئيس لولايتين امتدّت كلّ منهما أربعة أعوام، وولايتين أخريين كلّ منهما ستة أعوام، فصلت بينهما فترة كان خلالها رئيسا للوزراء 2008-2012، وشهد عهده في عام 2020، تعديلاً دستورياً يتيح له البقاء في الحكم حتى 2036. وإذا ما تحقق له هذا، فإنّه سيكون قد أصبح الحاكم الأطول عمراً في تاريخ روسيا، متغلباً على الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين والإمبراطورة كاثرين في القرن الثامن عشر، اللذين ظلا في السلطة أكثر من 30 عاماً.
لم يكن الفوز وحده المهم لبوتين في الانتخابات الرئاسية أخيرا، وإنما أيضاً الإقبال الكبير على مراكز الاقتراع والنسبة العالية للتأييد، حيث إن روسيا تخوض حرباً واسعة النطاق على أكثر من جبهة، وستكون لها عواقب دائمة على روسيا، والدعم الكبير للرئيس سيضيف الشرعية إلى قراراته اللاحقة، والتي سيكون كثير منها مرتبطاً، بشكل مباشر، بالحرب في أوكرانيا، فهي حاضرة على الدوام في حياة الروس، من عقوباتٍ دولية، ومحدودية خيارات سفر، وعدد أقلّ من السلع الأجنبية، وشعور بالعزلة، على الأقل عن الدول الأوروبية.
التنبؤ بمسار عمل بوتين في مرحلة ما بعد الانتخابات أمر بالغ الصعوبة
وبالنسبة للكرملين، من شأن الفوز الساحق في الجولة الأولى أن يمنح بوتين طابعاً جديداً من الشرعية ويبعث رسالة واضحة مفادها بأن سياساته تجاه أوكرانيا والغرب عموماً تحظى بالدعم الكامل من شعبه، بينما يظلّ مستقبل أوكرانيا، وبشكل عام، مرتبطاً بتطورات العلاقات مع روسيا والغرب وبينهما. ويمكن القول إنّ موسكو قدّمت الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية الأسبوع الماضي دليلاً على أن الروس يلتفّون حول بوتين بعد أكثر من عامين على اشتعال الأزمة الأوكرانية، لكنّ نسبة 87% التي حصل عليها زعيم الكرملين لن تقنع الزعماء الغربيين بأنها انعكاس حقيقي لمستوى شعبية بوتين حالياً.
تركّزت حملة بوتين الانتخابية على الاستقرارين، السياسي والاقتصادي، والتزامه بحماية مصالح روسيا في الخارج. ومع ذلك، تواجه روسيا تحدّيات عديدة، منها التوترات الدولية وتشمل العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التوترات في مناطق الصراع، مثل أوكرانيا وسورية، و تحدّيات اقتصادية، مثل التضخم، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وضغوط العقوبات الدولية، وتأثيرات أسعار النفط على الاقتصاد الروسي، فضلاً عن ملفّ الفساد. وعلى الرئيس الروسي التعامل مع المخاوف المتزايدة بشأن حقوق الإنسان وحرية التعبير في البلاد، كما أن الحرب في أوكرانيا مثل أي حرب، والحروب دائما لا يمكن التنبؤ بها، وأياً كانت الجهود التي يبذلها بوتين لتدوير الأمور لصالحه، فإن مشكلات روسيا الأطول أمداً (الانحدار الديمغرافي، وتكلفة الحرب والعقوبات، والهشاشة المتأصلة في حكم الرجل الواحد) من غير المرجّح أن تختفي قبل أن يترشّح بوتين لولاية سادسة في انتخابات الرئاسة.
وصحيح أنّ التنبؤ بمسار عمل بوتين في مرحلة ما بعد الانتخابات أمر بالغ الصعوبة. لقد نجح الزعيم الروسي في حماية اقتصاده من العقوبات على المدى القصير، فمصانع ذخيرته تتفوّق في إنتاجها على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وجرى تطهير المشهد السياسي من كل المنافسة، إلّا أنّ من المتوقّع أن يستمر بوتين في تبنّي سياساته القوية في مواجهة كل التحدّيات، ما يؤدّي إلى استمرار التوترات الدولية.
نجح الزعيم الروسي في حماية اقتصاده من العقوبات على المدى القصير، فمصانع ذخيرته تتفوّق في إنتاجها على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين
وبينما يستعدّ للاستمرار ستّ سنوات أخرى على الأقل، يرأس بوتين اقتصاداً نجا (حتى اللحظة) من العقوبات الغربية التي لم يسبق لها مثيل، ويخوض معركة لم يحقّق فيها بعد تقدّما حاسماً. ومن زاوية ثانية، هناك بوادر على التململ وسط التحالف الغربي، وخصوصاً في واشنطن، حيث قد تؤدّي الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل إلى توقف الدعم الأميركي لأوكرانيا، كما أن دولاً أوروبيةً شهدت صعود اليمين المتطرّف.
وقد اتصف حكم بوتين، منذ وصوله إلى الكرملين أواخر تسعينيات القرن الماضي، بسمتين رئيسيتين: أولاهما التصلّب المستمرّ في التعامل على طبقة الأثرياء الأوليغارش، وحرب الشيشان الثانية، والمعارضين الذين يتهمهم بالتبعية للغرب. والثانية إدراكه أهمية اكتساب السلطة الجيوسياسية في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي. وإقليميا، من أجل فرض الهيبة في التعامل مع الغرب، وسعى إلى تعزيز ذلك، من خلال الحرب القصيرة مع جورجيا 2008، وضمّ شبه جزيرة القرم 2014، والتدخّل العسكري المباشر في سورية 2015، وأخيراً بدء ما تسميها روسيا عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا 2022.
يبقى القول إنه لا يمكن إغفال حقيقة أن الرئيس الروسي نجا من سوء تقدير واضح لحكومته بتحقيق نصر سريع في أوكرانيا، وواجه أخطر تحدٍّ من زعيم مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، في تمرّد قصير، ولكنه فاشل، والعقوبات الغربية التي قطعت الاقتصاد الروسي عن جزء كبير من السوق العالمية.