عن تدجين المنصّات الاجتماعية في تونس
أذنت النيابة العمومية في تونس بالاحتفاظ بمؤثّرين في مواقع التواصل الاجتماعي (تيك توك)، وملاحقة آخرين بدعوى مسّ المحتوى الذي ينشرونه بالأخلاق الحميدة، من دون توضيح خلفيات القرار، أو مفهوم الأخلاق الحميدة، أو كيف فصلت الدولة مؤسّسةً راعيةً لشؤون مواطنيها بين الخير والشرّ، ومن ثمّ محاسبتهم.
أثار هذا جدلاً واسعاً خاصّة في أوساط روّاد الفضاء الافتراضي، بين مرحّب، اعتبر أن ثمّة منصّات تحولّت مسارحَ للإسفاف ونشر الرذيلة، تهدّد التنشئة السليمة للأطفال والمراهقين، ومستنكرٍ لفعل السلطة، وصفوه بالتدخّل السافر في الحرّيات الخاصّة، وبمحاولة لبسط اليد على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عناوين أخلاقوية، لا تعبّر عن حقيقة الممارسة السياسية التي تأتيها هياكل الدولة.
ساهمت الثورة التونسية في رفع الحُجُب عن مواقع ومنصّات عديدة كانت محظورة زمن نظام الرئيس زين العابدين بن علي (منها يوتيوب)، كما شهدت عشرية الديمقراطية انفتاحاً واسعاً على هذه الفضاءات المتجدّدة، ما جعلها ذات تأثير واسع في النقاش السياسي الوطني، ومحدّد أحياناً في بعض القرارات والخيارات، ومثّلت أيضاً مساحات ضغط وتحشيد، ونقدٍ يصل إلى حدّ التشويه والافتراء ورجم الناس بالباطل، إلّا أن ذلك لم يدفع أيّاً من المسؤولين إلى التفكير في الحدّ من هذه المساحة الحرّة والمتجاوزة لحدود الاحترام المتبادل في أحيان كثيرة، أو التقليص منها ووضع قواعد تضبطها.
أزمات السلطة التونسية، واختزال السيادة في احتكار أشخاصٍ العنفَ والتشريعَ، جعلها تعامل شعبها خارج التعاقدات القانونية التي تستوجبها الدولة الحديثة
وتحوّلت مواقع التواصل، بفعل التطوّر والانتشار، من منصات حوار وتعارف ودردشة، فضاءاتِ عملٍ تدرّ على أصحابها دخلاً متفاوتاً حسب نسب المشاهدة، عبر نشر محتويات مختلفة، منها ما ينفع الناس، ومنها ما لا يزيد إلا عن تعبيرات تعكس اهتمامات جزء من المجتمع ووعيه بالأشياء ونظرته للعالم، التي قد يختلف معها كثيرون باسم الدين والأخلاق ومسمَّيات أخرى، ولكنّها عيّنة من الواقع الواجب العناية به.
على هذه المنصّات أيضاً اشتهر مغنو "الراب"، وصعد نجم العشرات منهم بأغانيهم الشبابية الرافضة والمتمرّدة على السلطة والمجتمع، حتى أن بعض أغانيهم (بفعل وقعها على شرائح واسعة) صارت تُستغَّل سياسياً من المعارضة ضدّ منظومة الحكم، وبعض الكلمات أصبح يستدلّ بها من السياسيين في دوائر النقاش. كذلك استغلّت محطّات التلفزة هذا الفضاء، الذي يلتقي فيه ملايين التونسيين من خلال استعمالهم هواتفهم الذكية، لترويج برامجها ومنوّعاتها، خصوصاً منها المتعلّقة بالموضة والفنّ وأخبار المشاهير. وفي المقابل، انتشرت البرامجُ والومضاتُ الدينية ومضامينُ كثيرةٌ ذات أبعاد فكرية وتوجيهية في المجالات شتّى.
لقد ألقت الثورة الرقمية بظلالها على المجتمع التونسي، كغيره من المجتمعات المنفتحة على العالم وتطوّراته، وفعلت التكنولوجيا فيه فعلتها، سيّما عبر الهواتف الذكية وتطبيقاتها، التي أنتجت دوائرَ مجتمعيةً جديدةً، وأخضعته عبر تقنياتها لقواعد تفكير واهتمام مغايرة، وسيطرت خوارزمياتها على رغباته وشهواته، وجعلته يقف أمام سوق عرض كبيرة لما كان يتوق إليه كلّه، ومن دون حتى أن يحدّث نفسه به.
هذا العالم، أو السوق الكبير الجديد، فرض أنساقاً جديدةً في التفكير والسلوك والتنظيم البشري، كما أنتج إنساناً حديثاً مختلفاً في خلقته أو في "الهابيتوس" (يشير المصطلح، حسب مفهوم عالم الاجتماع بيير بورديو، إلى عادات الأفراد والجماعات، وكيف تتحوّل إلى أنماطاً سلوكيةً تفصل بين المجتمعات وتشكيلاتها المختلفة)، من حيث استعداداته وبنيات إدراكه، الناتجة من المراكمة اليومية لتجاربٍ ومعارفَ مختلفةٍ في فضاء أرحب من المجتمع الصغير الذي يتحرّك فيه، والذي يتجاوز حدود القرية والمدينة والدولة، التي تنظّم حياته وفق قوانين وأعراف محدَّدة.
تعجز تونسُ الرسميةُ عن استيعاب التغيرات السوسيوثقافية في تونس الشعبية
يختلف الإنسان الحديث العابر للحدود والأقطار والمفتوح على الزمن والثقافات المختلفة عن إنسان ما قبل الذكاء الاصطناعي، كاختلاف إنسان ما بعد الثورات الصناعية عن نظيره الزراعي. وبقدر اختلاف إنسان المدينة/ الدولة عن إنسان الريف/ القبيلة، وهو ما يستوجب آليات تحليل سلوكية مغايرة لسابقاتها، ويفترض أيضا جهوداً تحديثية ضخمة من الدول، خصوصاً منها الاستهلاكية والمفعول بها في سوق العرض والطلب، تحديثات ضرورية على المستويات التشريعية والاقتصادية والرقمية لمواكبة هذه الطفرة التكنولوجية، والتي من الواضح أنها في اتجاه تصاعدي.
لذلك تعجز تونسُ الرسميةُ، الغارقةُ في البيروقراطية الورقية، عن استيعاب التغيرات السوسيوثقافية في تونس الشعبية، ناهيك عن مرافقتها تأطيراً وتطويراً وتقنيناً، للاستفادة من مكاسبها وخدماتها، وللحد من مخاطرها. إن مواجهة السلطة في تونس لروّاد المنصّات الاجتماعية، والمرور إلى سجنهم بسبب بعض المحتويات "اللاأخلاقية" و"الخادشة للحياء"، حسب وصفها، لن يوقف زحف التكنولوجيا التي تحرّر العالم من قيود سلطويات الدول والمنظومات الأخلاقية المحلّية، رغم خضوع هذا العالم الجديد لأغلال مستحدثة، ربما تكون أخطر من جوانب أخرى، كما لن يمنع أفراد الأجيال الشابّة (والقادمة) من التعبير عن كينونتهم كما يتمثلونها، ما لم تنفتح عليهم وتتفاعل مع مشاغلهم واهتماماتهم وحاجاتهم الاقتصادية والروحية والجنسية، وما لم تدرك هذه المنظومات أن بقدر انغلاقها، سلطةً وثقافةً وسوقاً، ومحاولاتها تنميط هذا الإنسان الحديث والسيطرة عليه بالحديد والنار، فإنها لا تصنع إلّا وحوشاً.
يأتي هذا القرار في تونس، في سياق انحرافها عن مسار الحرّية منذ انقلاب 25 يوليو (2021)، ورزوحها تحت نظام شعبوي أكثر ما ينتجه أهميةً خطاب أخلاقوي يمارس الشعوذة الكلامية، ويزيّف حقائق الأمور، ويقدّم شعاراتِ السيادة على مبادئ المواطنة، رغم أن الأخيرة هي من أكثر عناصر السيادة الوطنية أهميةً، ووجهها الآخر، بما يفيد سيادة القانون المركّب من الحقوق والواجبات، التي تنظّم بدورها العلاقة بين الفرد والدولة، كما يعرّفها عزمي بشارة، في كتابه "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت/الدوحة، 2023).
ولكنّ أزمات السلطة التونسية، واختزال السيادة في احتكار أشخاصٍ العنفَ والتشريعَ جعلها تعامل شعبها خارج التعاقدات القانونية التي تستوجبها بنية الدولة الحديثة، وتفرض قيمها عليهم باستعمال القوانين السالبة للحرّية، في معركة كانت تتطلّب مزيداً من الحوار والانفتاح والحرّية.