عن تشميع بيوت "العدل والإحسان" في المغرب
تصوّر أن لك بيتا هو مقرّ سكنك أنت وأسرتك، وتخرجك سلطات بلدك منه، من دون أن تترك لك، أو لأي من أفراد أسرتك، الفرصة لتسحب معك سوى لباسك الذي عليك، وتغلقه بعد ذلك وتقوم بتشميعه، وتزرع كاميرات لمراقبته حتى لا يعود إليه ساكنوه، وتفرض عليه حراسة مشدّدة حتى لا يقترب أيّ أحد منه، ومع ذلك، يتعرّض للسرقة والتخريب، ولا يستطيع أصحابه العودة إليه لتفقده، ويستمر هذا الوضع 18 سنة. ومع ذلك، لا يُعفى هذا البيت المغلق من ضريبة الخدمات البلدية أو ضريبة النظافة التي تفرضها البلدية على عقارات المدينة، والتي سوف ترتفع إلى 18 ألف دولار، ويطلب من ملاك البيت المطرودين أصلا منه والممنوعين قسرا من العودة إليه أو حتى الاقتراب منه، أداء الضريبة، وإلا سوف يحجز على عقارهم ويعرض للبيع في المزاد العلني لاستخلاص أموال الضرائب المستحقّة!
يحدُث هذا في المغرب في عام 2024، والبيت المشمع المعني هنا في مدينة وجدة (شرق المغرب)، وهو لمحمد عبادي (75 سنة)، رئيس جماعة العدل والإحسان، أكبر جماعة إسلامية مغربية معارضة، أُخرج منه قسرا هو وأسرته قبل 18 سنة ولم يعد إليه. ومثله توجد في المغرب بيوت عديدة مغلقة ومشمعة، وكلها بلا استثناء لأعضاء في الجماعة نفسها، أغلقتها السلطات، وبقرارات إدارية، وقامت بتشميعها، ومنعت سكّانها من العودة إليها، وناهز عدد هذه البيوت المشمعة نحو 14 بيتا في مدن مغربية مختلفة، مشمعة منذ عدّة سنوات بقرارات إدارية صرفة.
تشميع البيوت وتشريد سكانها إجراء تخص به السلطة المغربية أعضاء جماعة العدل والإحسان التي لم تنجح في تطويعها أو تدجينها
هذا الإجراء الإداري الذي كان سائدا في عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب ضد المقاومين، بدأت السلطات المغربية تلجأ إليه منذ نحو عقدين، ولم يُتّخذ ضد أعضاء أي حزب أو جماعة أخرى معارضة، وإنما تخصّ به أعضاء جماعة العدل والإحسان التي لم تنجح السلطة في تطويعها أو تدجينها. وتسبّبت هذه الإجراءات، غير المسنودة بأي قرار قضائي، في تشريد أسر ملاك هذه البيوت وحرمانهم من مساكنهم ومنعهم من التصرّف في ملكيتهم الخاصة. والسبب غير المعلن لهذه القرارات الإدارية التعسّفية أن أعضاء الجماعة، أصحاب هذه البيوت، يتّخذون منها أماكن لاجتماعاتهم غير المرخّص لها، علما أن الجماعة نفسها حاصلة على ترخيص رسمي من السلطات المغربية منذ ثمانينيات القرن الماضي يَعترف بوجودها، لكن بسبب معارضتها المُعلنة والصريحة يتم قمع مناضليها واعتقالهم، وتُحظر أغلب أنشطتها وتمنع فعالياتها، إلا تلك التي تفرض نفسها، أو تفرضها السياقات الداخلية والإقليمية الضاغطة، مثل المسيرات التي تنظمها الجماعة منذ العدوان الإسرائيلي على غزّة، وتتغاضى السلطات عنها لأنها ترى فيها متنفّسا للغضب الشعبي المغربي على ما يجري في غزّة من جرائم في وقت تتمسّك فيه السلطات المغربية باتفاقيات التطبيع المشؤومة مع الكيان الإسرائيلي.
تعتبر هيئات حقوقية ومدنية عديدة في المغرب وفي الخارج، من بينها منتظمات حقوقية دولية، مثل هيومن رايتس ووتش، أن هذه الإجراءات تعسّفية، وليس لها سند قانوني، وأكثر من ذلك هي تفتقر إلى الحسّ الإنساني والأخلاقي بسبب تشريد الأسر وحرمانها من مقارّ سكنها التي تعدّ ملكية خاصة مقدّسة، تحميها جميع الشرائع الوضعية والسماوية. وقد تأسست قبل سنوات في المغرب "اللجنة الوطنية للتضامن مع أصحاب البيوت المشمعة"، التي تضم في صفوفها مدافعين عن حقوق الإنسان وحقوقيين من جميع الأطياف، ونظّم أعضاء هذه اللجنة قوافل تضامنية مع أصحاب هذه البيوت، ودقّوا أبواب مؤسّسات رسمية عديدة، مثل رئاستي الحكومة والبرلمان و"المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، لكن "لا حياة لمن تنادي"، فالقرار سياسي يصدر عن وزارة الداخلية، وهو مرتبط بالصراع بين السلطات المغربية والجماعة المعارضة، والغرض منه تخويف الناس من الالتحاق بصفوف الجماعة أو التعاطف معها أو حضور أنشطتها.
تشميع البيوت فصل آخر من فصول صراع طويل بين السلطة وآخر جماعة معارضة في المغرب
ليس صراع "العدل والإحسان" مع السلطة في المغرب جديدا، بدأ منذ وجدت هذه الجماعة في سبعينيات القرن الماضي، قضى مؤسّسها عبد السلام ياسين عشر سنوات من حياته مُحاصرا في بيته تحت إقامة إجبارية مشدّدة. ورغم رفع الحجر عن بيت شيخها الراحل، استمرّت سياسة شدّ الحبل بين السلطة والجماعة، واستمرّت المواجهة مفتوحة بينهما عبر عدة أشكال من التضييق والقمع والمنع والحظر والاعتقال والمحاكمات والتشهير عبر وسائل إعلام مقرّبة من السلطة، وتشميع البيوت فصل آخر من فصول هذا الصراع الطويل بين السلطة وآخر جماعة معارضة في المغرب تمثل اليوم صوت الرفض والاحتجاج وسط بيئة سياسية مغربية نجحت السلطة في ترويض كل مقاومة بداخلها.
تكاد لا توجد، اليوم، في العالم دولة تصف نفسها بالديمقراطية، أو المدنية، تقوم بتشميع بيوت معارضيها وطردهم منها بقرارات إدارية تعسّفية تنتهك حرمة السكن والملكية الخاصة، بدعوى أنهم يتبنّون أفكارا وآراء ومواقف تختلف عن خطها الرسمي. في كل الدول التي تحترم مواطنيها القانون هو الذي ينظم العلاقة بين المواطن ودولته وبينه وبين سلطات بلاده. وثمة دولة واحدة ووحيدة، مارقة، تضع نفسها فوق كل القوانين، بما فيها قوانينها، هي إسرائيل، تصادر بيوت الفلسطينيين وتهدمها فوق رؤوسهم انتقاما وظلما وعدوانا، ولا نتمنّى للدولة المغربية أن تصنف إلى جانب دولة أصبحت منبوذة في العالم مثل إسرائيل. أفرجوا عن بيوت الناس واجعلوا القانون حكماً بينكم وبينهم.