عن تطلّعات الجزائريين في 2023
تتدخّل في تحديد تطلعات الشعوب جملة من المحدّدات البنيوية والذاتية والعقائدية، بل وحتى المؤسساتية، وهي نتاج أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية وديموغرافية معيّنة، تضفي طابع التنوّع والحيوية على هذه التطلّعات. .. ما هي تطلعات الجزائريين للعام الجديد؟ هل لهم تطلعات جديدة، أم أنها لا تختلف عن تطلعاتهم السابقة؟ وهل هي متجانسة، أم أن للجزائريين تطلعات فئوية واجتماعية متباينة؟
تجمع التركيبة السكانية للجزائر (46 مليونا) بين جزائريين ينتمون إلى ثلاثة أجيال، منهم من ولدوا قبل الاستقلال (1962)، ومن ولدوا بين 1962 و1990، ومن ولدوا بعد 1990. وتجمع هذه التركيبة بين مواطنين نشأوا في ظروفٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ ومختلفةٍ، بل ومتباينة وينتمون إلى فئات اجتماعية واقتصادية مختلفة، لتفرز هذه التركيبة تنوّعا بل تباينا طبيعيا، بل تضاربا في بنية التطلعات المستقبلية للجزائريين.
على سبيل المثال، يتطلّع ملايين من الجزائريين، نساء ورجالا، من الذين يتوجّهون يوميا إلى أماكن عملهم في كل ولايات البلاد، وفي مختلف المهن والقطاعات الاقتصادية والخدماتية إلى تلبية احتياجاتهم الحياتية من خلال العمل وكسب قوتهم وقوت أولادهم في بلدهم، مهما تعدّدت التحدّيات. وفي المقابل، قد يرتبط المستقبل، خصوصا لدى الشباب الجزائري (15 - 24 سنة)، وهم يمثلون 14% من إجمالي سكان الجزائر، بحلم الهجرة لإثبات الذات، لكن الشباب الجزائري عموما يطمح كذلك إلى البحث عن فرص التمكين في بلدهم. ومن جهة أخرى، تتطلّع الفتيات الجزائريات اللواتي استفدن من فرص تعليمية وتوظيفية واسعة في العقود الأخيرة إلى المشاركة الأوسع في الحياة الاقتصادية، وهذه تطلعات تؤثّر على عدة شؤون مجتمعية، كالزواج وتكوين أسرة.
مكانة السياسي في الجزائر متجذّرة في المجتمع، في انتظار بروز ظروف مناسبة لإحياء العلاقة الطبيعية بين الجزائريين والسياسة
لهذا، يصعب الحديث عن أحادية تطلعات الجزائرين اليوم، بل بالعكس نحن أمام تنوّع طبيعي لها، يرتبط، بالدرجة الأولى، بطبيعة التركيبة العُمرية لهم، وطبيعة تنشئة كل جيل والتحوّلات المجتمعية والثقافية والقيمية، بل وحتى السياسية التي عرفتها الجزائر منذ الاستقلال. ولكن، وبعيدا عن التطلعات الفئوية، للجزائريين تطلعات قديمة - جديدة وجديدة - قديمة تتعدّى الانتماءات الجيلية والمكانة الاجتماعية والاقتصادية، بل وحتى المناطقية للجزائريين.
يتطلّع الجزائريون، بصفة عامة، إلى العيش الكريم في بلدهم، بعيدا عن مختلف ملامح "الحڤرة" والتهميش والإقصاء. وترتبط "الحڤرة" أكثر بالممارسات البيروقراطية اليومية التي يعاني منها المواطن الجزائري خلال مختلف معاملاته مع المؤسسات العامة. هذه التصرّفات التي جعلت المواطن الجزائري يفقد الثقة في الدولة وجميع هيئاتها، بل ويمتنع عن المشاركة السياسية من خلال مقاطعة الانتخابات التي جرت في البلاد في السنوات الأخيرة. ولا تقتصر ملامح "الحڤرة" إلا على الأفراد، بل شملت كذلك الفوارق التنموية المناطقية، ما أدّى إلى ظهور مناطق الظل في الجزائر. ويرتبط التطلّع إلى العيش الكريم كذلك بتحسين الظروف الحياتية اليومية للجزائريين في مختلف بلديات الجزائر، وذلك من خلال التطلّع الى بيئة عمرانية وحضارية تتوافق مع متطلبات العيش الكريم من طرقات مناسبة وإنارة وتوفير نظافة ملائمة، وذلك لإيجاد ظروف العيش المشترك التي يطمح إليها كل الجزائريين. وتتطلب هذه الجهود مساهمة كل الأطراف، بما فيها المواطنون.
يتطلّع الجزائريون، بصفة طبيعية، إلى الحصول على فرص عمل تمكّنهم من تحسين مستواهم المعيشي والتخفيف من حالات الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها أسر عديدة. وتتطلع الطبقة العاملة إلى العمل اللائق، من خلال حصول العاملين على رواتب تغطّي احتياجاتهم الشهرية الأساسية، وتحمي قدرتهم الشرائية. لهذا يعتبر التوظيف والعمل اللائق والأجور المناسبة والمحافظة على القدرة الشرائية للجزائريين من بين الأولويات القديمة – الجديدة، بل ومن بين الأولويات الثابتة، نظرا إلى أهميتهما في حماية كرامة المواطنين، ودورهما في تعزيز الحماية الاجتماعية والحدّ من التفاوتات الاجتماعية.
تولّد عن تصحّر الحياة السياسية وتراجع دور الأحزاب والنقابات في الجزائر عزوف الجزائريين عن السياسة
وللتأثير على الواقع الاقتصادي للعمّال والبطالين والمتقاعدين، وجّه الرئيس عبد المجيد تبون بزيادة الرواتب، على مدى السنتين 2023 ـ 2024، ليراوح مستواها سنويا ما بين 4500 دينار و8500 دينار، وهو ما يجعل الزيادات خلال السنوات الثلاث 2022، 2023، 2024، تصل إلى نسبة 47%. وإذا كانت هذه الزيادات التي ستدخل حيز التنفيذ في بداية هذه السنة تدخل ضمن مساعي الدولة لحماية القدرة الشرائية للجزائريين، غير أن تحقيق هذا يتطلب اعتماد إجراءات مصاحبة، خصوصا ترتبط بالتحكم في أسعار السلع ومحاربة المضاربة التي أرهقت الجزائريين وأفرغت جيوبهم.
ويتطلّع الجزائريون إلى أن توفر لهم خدمات صحية أولية ومتخصّصة مقبولة ومنظومة تعليمية توفر لهم تعليما يلبي تطلعات الطلبة وأوليائهم. لكن وعلى الرغم من اتساع خريطة المؤسّسات التعليمية والصحية عبر التراب الوطني، وتوسّع استثمارات الدولة في قطاعي الصحة والتعليم، غير أن هذين القطاعين الحيويين ما زالا يواجهان تحدّيات مختلفة، ما أثّر على طبيعة خدماتهما التي لم ينجح القطاع الخاص في الارتقاء بها أمام غلاء أسعار الفحوصات الطبية، ولا سيما التخصّصية منها والارتفاع الفاحش لأسعار الدروس الخصوصية في الجزائر. هذه الأخيرة التي أصبحت تضعف ميزانيات الأسر بشكل مخيف.
تولّد عن تصحّر الحياة السياسية وتراجع دور الأحزاب والنقابات في الجزائر عزوف الجزائريين عن السياسة، عزوف يتجلى من خلال تدنّي مستويات مشاركة الجزائريين في كل الانتخابات التي جرت في السنوات الأخيرة. ويشمل هذا العزوف عن السياسة كذلك عدم انتسابهم لأحزاب، مهما كانت توجهاتها وعلاقاتها مع السلطة. ليترتّب عن هذا الوضع الوفاة السريرية لhomo - politicus في الجزائر. ولعل ما زاد في حدّة تراجع homo - politicus في الجزائر غياب حوار رزين بشأن مختلف القضايا السياسية التي تخصّ الجزائر والجزائريين، وتراجع مساحة الفضاءات الفكرية والإعلامية التي تساهم في إثراء نقاشات فكرية حول واقع الجزائر ومستقبلها. لهذا، تبدو التطلّعات السياسية للجزائريين جد محدودة. لكن هذا لا يعني أن الجزائريين ابتعدوا عن العمل السياسي بصفة مطلقة، بل بالعكس، مكانة السياسي في الجزائر متجذّرة في المجتمع، في انتظار بروز ظروف مناسبة لإحياء العلاقة الطبيعية بين الجزائريين والسياسة.