عن تقييم الفشل الاستخباري الإسرائيلي وتوظيفه في الصراع السياسي
سوف يتوقّف الإسرائيليون طويلا أمام ما حدث من فشل استخباري متكرّر بدأ منذ عامين، حينما شرعت المقاومة الفلسطينية في الإعداد لعملية طوفان الأقصى، ثم استمرّ منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويحاول هذا المقال رصد مسألتين مهمتين؛ إحداهما ترتبط بتقييم الفشل، والأخرى بتوظيفه في الصراع الداخلي الحاصل هناك.
وبدايةً، لا يختلف اثنان في الكيان الصهيوني على تحميل المسؤولية للأجهزة الاستخبارية، التي سارع مسؤولوها منذ اليوم الأول للاعتراف بتقصيرهم فيما جرى، لكنهم قد يختلفون في تحميل الفشل للقيادة السياسية، متمثلة في نتنياهو وحكومته، حسب التحيّزات الأيديولوجية. ويردّ محللون إسرائيليون الفشل لأسباب عدة؛ منها الاعتماد المبالغ فيه على التكنولوجيا. وطبقا للكاتب في موقع ماكو الصهيوني شاي ليفي، أدّت هذه المبالغة إلى فقدان القدرة والكفاءة في مجالاتٍ عديدة، فرغم أهمية التكنولوجيا، لكنها لا تكفي بمفردها، والمفترض أنها موجودة لتحسين القدرات، لكن ما حدث كان العكس، رغم كثير من إشارات التحذير في الماضي. والمفترض، طبقا لرأي ليفي، أن تكون قوات الجيش مستعدّة للعمل حتى في غياب المعلومات، وكان على الجنود التصدّي لمقاتلي حركة حماس، وهو ما لم يحدُث. وليست هذه المرّة الأولى التي يحدُث فيها هذان الفشلان، الاستخباري والعسكري، فقد سبق ذلك بعدة أشهر، وتحديدا في يونيو/ حزيران الماضي، تحذير يؤكّد خطورة الوضع، حينما تمكّن الجندي المصري محمد صلاح من عبور الحدود وقتل ثلاثة جنود إسرائيليين، وحينها، سارع الجيش إلى إقالة قائد الوحدة وآخرين، لكنه لم يُصلح العيوب الكثيرة في نظام تفعيل القوة والتعامل الناجح مع التهديدات في مثل هذه الظروف.
كان التصوّر السائد تفضيل أن تكون "حماس" ضعيفة، مرتدعة في غزّة
يُضاف إلى ذلك ما كانت تقدّره القيادات الاستخبارية أن "حماس" مرتدعة، واستحالة قيامها بهذا السيناريو الخيالي. ويكتب رونين برغمان في صحيفة يديعوت أحرونوت أن قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الصهيوني كانت تقدّر أن "حماس" لا يمكن أن تفكّر في تحريك أكثر من 70 مقاتلا من مقاتلي النخبة في أي هجوم تنفذه ضد الاحتلال، لكنها في الحقيقة حركت ثلاثة آلاف مقاتل، حسب التقديرات. وإلى جانب ذلك، ما جمعته "حماس" من معلومات سرّية عن إسرائيل كان أكبر بكثير مما كان لدى إسرائيل عنها. ويذكر برغمان أن خطة "حماس" تضمّنت تفاصيل سرّية عن الاحتلال، لا يعرف أحد كيف وصلت إليها، كما كان لديها اطّلاع واسع على رسائل البريد الإلكتروني لمجموعات من الوحدة 8200 المسؤولة أصلا عن التجسّس الإلكتروني.
ثمّة مستوى آخر للفشل، جاء عليه رئيس الاستخبارات العسكرية السابق ومدير معهد دراسات الأمن القومي الحالي في جامعة تل أبيب، تامير هايمان، بتمييزه بين أمرين، أولهما ما يعرف بالخطة العملياتية لحماس، والأخرى المهمة التنفيذية، فالأولى تقوم فيها الحركة بالاستعداد والتدريب وبناء القوة من أجل هدفٍ ما، وهي تفعل ذلك طوال الوقت. أما المهمة التنفيذية فترتبط بموعد التنفيذ الذي تنوي فيه تطبيق ما استعدّت له على الأرض. ودائما يجب أن نفكّر في إمكانية تحقيق هذه المهمة واحتمالية نجاحها، وهنا يطرح السؤال على أجهزة الاستخبارات؛ هل كانوا يروْن فيما يحدث من استعدادات "حماس" خطّة عملياتية أم مهمة تنفيذية، ففي الحالة الأولى، يتم التفكير في الإجراءات التي تتخذ على الأرض للدفاع والردّ، وما الذي عليهم فعله في جمع المعلومات، لفحص متى تتحوّل هذه الخطة إلى مهمّة تنفيذية. واعتقادي، والكلام لهايمان، أنهم لم يضعوا التقدير الصحيح. ومن هنا كانت المفاجأة والفشل الذي بدأ بوضع تصوّر خاطئ أن "حماس" مرتدعة، ولا تريد الذهاب إلى الحرب، وأنها معنيّة بأمور أخرى. كان التصوّر السائد تفضيل أن تكون "حماس" ضعيفة، مرتدعة في غزّة، وكان ذلك أهم من إحضار السلطة الفلسطينية إلى غزّة، لأن وحدة الضفة الغربية وقطاع غزّة تحت السلطة الفلسطينية ربما يفتح ملفّ قيام دولة فلسطينية، ولم يكن أحد في الدولة أو الأجهزة الاستخبارية يريد ذلك.
إجماع صهيوني على وجود فشل في عمليتي جمع المعلومات، والتقييم
ومن الواضح أن هناك إجماعا صهيونيا على وجود فشل في عمليتي جمع المعلومات، والتقييم؛ أما ادّعاء بعضهم أن رئيس قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية قدّم تحذيرا لنتنياهو من احتمال تعرض إسرائيل لهجوم عسكري، فإن الصحافي الإسرائيلي المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط والمدير السابق لهيئة الإذاعة الإسرائيلية يوني بن مناحيم يفنّد هذا الادّعاء؛ ويقول إن التحذير الذي قدّم كان على خلفية أن الصراع السياسي بشأن التعديلات القضائية يمكن أن يغري أعداء إسرائيل، لم يكن، في الحقيقة، يتحدّث عن "حماس"، بل عن حزب الله، وهذا يعني أيضا أنه كان مخطئا في تقديراته؛ ويؤكّد كارثة أن تفشل الاستخبارات العسكرية والشاباك في رصد استعدادات "حماس" للحرب طوال عامين، ونشاطها غير العادي على طول الحدود في الأشهر الأخيرة، وهو ما أكّده، أيضا، رئيس الموساد الأسبق يوسي كوهين، باعتباره ما حدث كارثة استخبارية كبيرة بشكلٍ لا يمكن تصوّره.
ويثير كوهين قضية أخرى برفضه تحميل المسؤولية لجهاز استخباري واحد؛ إذ إن أجهزة الاستخبارات الثلاثة مجتمعة تتحمّلها معا؛ الموساد والشاباك والاستخبارات العسكرية؛ فصلاحيات هذه الأجهزة في ما يتعلق ب"حماس" تحديدا موزّعة كالتالي: يتابع "الموساد" حركة حماس في الخارج، أما في الشاباك فمسؤولون عن "حماس" في كل فلسطين، وتتابع الاستخبارات العسكرية النشاط العسكري للحركة. وبالنسبة لجمع المعلومات، تتعاون الأجهزة الثلاثة معا بشكل عميق، ويطّلع كل مسؤول في الأجهزة الثلاثة على نتائج الجهازين الآخرين، وهناك لجنة مشتركة يجتمع فيها رؤساء هذه الأجهزة برئاسة السكرتير العسكري لرئيس الوزراء. وهذا يعني أن الأجهزة الثلاثة لم تستطع أن تقدّم تقديرا صحيحا لما تخطّط له "حماس"، ولم يتوفّر لها جميعا أي معلوماتٍ عن أي شيء، وهذا يعني أنها مشتركة في الفشل بالتأكيد.
يظن كثيرون من أعضاء "الائتلاف الحكومي" وجمهورهم أن "العدو في الداخل"
الغريب هنا أن النخب السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني، ومعها مؤيدوها، لا تتورّع عن الاستثمار في الفشل الاستخباري الواقع، وتوظيفه في الصراع الداخلي، فمن ناحيةٍ تُحاول الأجهزة الاستخبارية التأثير على الرأي العام، طبقا لرؤية بن مناحيم، وتسعى إلى دحرجة الفشل باتجاه المسؤولين السياسيين. وعلى الطرف الآخر، يشعر أعضاء "الائتلاف الحكومي" وجمهورهم بهذا الأمر، ويروّج كثيرون من هؤلاء نظرية المؤامرة، ويظنّون أن "العدو في الداخل"، وهو ما عكسه اتهام نتنياهو، الذي تراجع عنه لاحقا، ضد قادة هذه الأجهزة، وعكسه اتهام عضو الكنيست عن الليكود تالي جوتليب، التي تساءلت في نبرة اتهام لقادة الجيش عن سبب تسريب واقعة قتل الأسرى الإسرائيليين الثلاثة بنيران القوات الإسرائيلية بأدقّ التفاصيل، واعتبرت ذلك محاولة لإثارة الجمهور من أجل التبكير بإنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها، وعكسه كذلك التقرير التي تحدّثت عنه صحيفة معاريف، التي ذكرت أن نتنياهو نبّه أعضاء كتلة الليكود، إذا ما سُئلوا عن الموضوع، إلى الإجابة بأن أجهزة الاستخبارات لم تقدّم أي تحذيرات للحكومة، على أن تكون النبرة مخفّفة منعا لإثارة الرأي العام.
كل جناح يسرّب ما يعكس فشل الآخر، أو يؤثر سلبا على أعدائه في الداخل، في عملية تصفية حساباتٍ لا يبدو أنها ستُغلق قريبا
وقد برزت، أخيرا، إلى السطح، قضية جديدة عن الوضع الصحي لقائد كتائب القسّام محمد الضيف، وتمتّعه بصحة جيدة، والسير على قدميه، على عكس المعلومات الاستخبارية للأجهزة الصهيونية التي سادت سنوات طويلة. وبغض النظر عن مدى دقّة المعلومات الجديدة، التي لم تؤيدها "حماس" أو تنفها، فقد أثارت الرأي العام الإسرائيلي من جديد، وبشكل واسع، وأعادت إلى الواجهة الحديث عن الإخفاق الذي كان كثيرون يفضّلون تأجيله إلى ما بعد الحرب، وبدا الأمر وكأن هناك من لا يريد إيقاف سردية الفشل، لأنها تخدم أهدافه، فقد عاد النقاش عن "محمد الضيف الذي خدع الاستخبارات، ولفّها على خنصره"، مثل ما كتب المحلّل العسكري لموقع والّا الصهيوني أمير بوحبوط، أو مثل ما كتبت الصحافية في موقع ذا ماركر رافائيلا جويكمان: "إن عاقبة هذه الاستخبارات الفاشلة قادت البلاد إلى أكبر كارثة في تاريخها، وسنظلّ نتكلم عنها طويلا"، أو مثل ما عبر رئيس اللجنة التشريعية والدستورية وعضو الكنيست عن الليكود سمحا روتمان عن ضرورة إقالة قادة الاستخبارات الفاشلة، الذين روّجوا سنوات أن محاولات الاغتيال السبع الفاشلة ضد محمد الضيف تركته قعيدا لا يتحرّك إلا بكرسي متحرّك.
مثل هذه الحوادث، أو التسريبات على نحو أدقّ، ربما تفتح الباب للاعتقاد أننا أمام أجنحة متصارعة؛ كل جناح يسرّب ما يعكس فشل الآخر، أو يؤثّر سلبا على أعدائه في الداخل، في عملية تصفية حساباتٍ لا يبدو أنها ستُغلق قريبا.