عن جذور الأزمة السياسية في تونس
ليست الأزمة السياسيّة المشهودة في تونس حاليّاً نتاج مستجدّات اللّحظة الرّاهنة فحسب، بل هي وليدة تراكمات الزّمن الانتقالي الصّعب الذي يمكن أن تعيشه أيّ جماعة بشريّة في انتقالها من حال الثّورة إلى حال بناء الدّولة، فالتّأسيس للدّولة العادلة بديلاً من الدّولة القامعة، وإقامة النّظام السّياسي التعدّدي بديلاً من النّظام الأحادي الديكتاتوري، وتمدين المجتمع بدل تنميطه، ودمقرطة الفكر بدل تحنيطه في قوالب جامدة، مطالب تقتضي المراس الطّويل مع الفكر التّنويري والتعلّميّة الدّيمقراطيّة. ومع أهمّية المنجز الدستوري التقدّمي، وجهود مأسسة الاجتماع المدني في تونس بعد الثورة، ظلّ المشهد السياسي مهزوزاً، تعتريه موجات توتّر، من حين إلى آخر، على امتداد عقد من سقوط الدولة الشمولية، وأثّر ذلك سلباً في الاستقرار الحكومي، وفي إمكان تعزيز مشروع انتقال اقتصادي شامل ومستدام. ويُمكن تفسير الوضع السياسي المأزوم في البلاد بعدّة عوامل، منها شيوع أجواء التشكيك وانعدام الثقة بين الفاعلين السياسيين، وصعود العصبية الحزبية على حساب مراعاة الصالح العام، وهيمنة خطاب إعلامي مشحون بالكراهية ومتلازمة إقصاء الآخر.
معلومٌ أنّ انتشار حالة اللّايقين والإحساس بالخوف من الحاضر والمستقبل حالة طبيعيّة مشهودة في دول الانتقال الدّيمقراطي، وذلك بسبب ما يعتري أغلب المواطنين من خشيةٍ من تدهور الوضع الاقتصادي وانفراط السّلم الاجتماعي. ولكن أن يتحوّل التّشكيك إلى سلوك يومي ملازمٍ أعلاماً في الطبقة السياسيّة، فإنّ ذلك يشكّل خطراً على استقرار مؤسّسات الحكم ومسارات إدارة دواليب الدولة، فبدل أن يكون السّاسة (حاكمين ومعارضين) في موقع من يبعث رسائل طمأنة إلى عموم المواطنين، ويقترح حلولاً إجرائية، واقعية، للمشكلات العالقة، تجد معظمهم في الحالة التونسية، ميّالين إلى التّخويف والتّشكيك في كلّ شيء، وهو ما يورّث في نفس المواطن حالة من القلق وعدم الاستقرار نفسيّاً وذهنيّاً، ويزيد في عزوف النّاس عموماً، والشّباب خصوصاً، عن السّياسة وصنّاعها. ويلاحظ المتابع لمستجدّات المشهد السياسي التونسي، في غير عناء، استحكام الإحساس المتبادل بعدم الثّقة بين الفرقاء السياسيّين، فهيئات الحكم السيادية الثلاث (رئاسة الجمهورية، مجلس نوّاب الشعب، الحكومة) تعمل في غير تنسيق متين، وتتنازع على الصلاحيات ومواقع النفوذ، وبعضها يستنقص من شرعية الآخر ويشكّك في جدارته بقيادة البلاد.
انتشار حالة اللّايقين والإحساس بالخوف من الحاضر والمستقبل حالة طبيعيّة مشهودة في دول الانتقال الدّيمقراطي
وفي مستوى أداء الأحزاب المعارضة، ظهر جليّاً أنّ حملات التّشكيك في الحكومة الوليدة بقيادة هشام المشيشي بدأت مبكّراً، فحُكم عليها بالفشل، قبل أن تُباشر عملها (2 سبتمبر/ أيلول 2020)، ونعتها آخرون بأنّها نسخة من الترويكا (2013 -2011) باعتبارها تحظى بتأييد ثلاثي حزبي (حركة النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة). وبلغ الأمر ببعض المغالين درجة تجييش النّاس ودعوتهم إلى النّزول إلى الشّارع، لتعطيل المرافق العمومية الحيوية وإرباك سيرورة الحكومة الجديدة. فيما انصرف شقٌّ آخر إلى الطّعن في تمثيليّتها واعتبارها غير مجسّدة للإجماع الوطني. والواقع أنّ الحجج التي يتمسّك بها المعترضون على رئيس الحكومة الجديدة (التيار الديمقراطي، حركة الشعب، الحزب الدستوري الحر) لا تسلم لأصحابها لأنّ الرّجل تكنوقراطيّ، مستقلّ، وشغل مناصب في حكوماتٍ متعاقبة بعد الثورة من دون أن يستظلّ بأيّ يافطةٍ حزبيّة. كذلك إنّ الادّعاء بعدم تمثيليّة الحكومة الحالية وعدم حصولها على الإجماع قولٌ لا يَسْلَم لأصحابه، لأنّ الإجماع قريبٌ إلى المحال منه إلى الإمكان في الدّيمقراطيّات الحديثة، وفوز الحكومة الجديدة بتزكية المركزيّة النقابيّة وطيف من الأحزاب الوازنة وعدد معتبر من نوّاب الشعب يعطيها سنداً شعبيّاً ومدنيّاً لا يُستهان به. ومع أهمّية تحفّظات بعض الأحزاب المعارضة ومشروعيّتها النسبيّة (تدهور البنية التحتية، انتشار البطالة والفقر، تدهور مؤسسات عمومية ...)، فإنّه لا يمكن تحميل حكومةٍ لم يتجاوز عمرها أربعة أشهر مسؤولية سياساتٍ خاطئةٍ على امتداد ستة عقود من قيام دولة الاستقلال. والاستمرار في ترويج خطاب التشكيك والتأزيم، وتغذية أسباب التوتّر من دون تقديم بدائل فعلية وحلول حقيقية، يبقى أمراً غير صحّي وغير خادم لمطلب الاستقرار. والوضع هنا يقتضي التّنازل بدل التنابذ، والتّعاون بدل التنافر.
هيئات الحكم السيادية الثلاث تعمل في غير تنسيق متين، وتتنازع على الصلاحيات ومواقع النفوذ
والثّابت أنّ استمرار أجواء عدم الثّقة بين الفرقاء السياسيّين لن يخدم مطلب التّوافق المأمول، وذلك راجعٌ إلى تغليب بعضهم المصلحة الحزبيّة على الصّالح العامّ. والانتماء الحزبي حقّ مشروع لكلّ مواطن في تونس بعد الثّورة، وهو من أشكال الانتقال من الأحاديّة إلى التعدديّة، ومن مظاهر إشراك المواطن في الشّأن العامّ، لكنّ الإشكال متمثّلٌ بتحويل الانتماء الحزبي إلى دوغما منغلقة، تؤسّس للذّات عبر تقويض الآخر. والمتابع للمشهد السّياسي في تونس يتبيّن أنّ التنافر يحكم مكوّنات المشهد الحزبي، فقسم مناصر للفريق الحاكم طلباً للاستقرار وتمكيناً لمشاريع الإصلاح. وقسم لا يعترف بالثورة ومخرجاتها، ويدعو إلى تقويض ما أنتجته منظومة (2011 - 2020) من تحوّلات دستورية وسياسية ومؤسّسية وحقوقية (الحزب الدستوري الحر مثالاً) وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها غير مأمونة العواقب، بل قد تعيد إنتاج المشهد السياسي نفسه، وقسم آخر لا يرى حرجاً في حلّ البرلمان والحكومة، وتمكين رئيس الجمهورية من كلّ الصلاحيات والسلطات (التيار الديمقراطي، حركة الشعب مثالاً) وفي ذلك استهانة بالشرعية الانتخابية وبالمؤسسة النيابية، ومطلب التوازن بين السلطات، واستعادة صورة الحكم الرئاسوي الأحادي الذي عانى جلّ التونسيين ويلاته زهاء 60 سنة.
استمرار أجواء عدم الثّقة بين الفرقاء السياسيّين لن يخدم مطلب التّوافق المأمول
واصطفّ كلّ حزب خلف التصوّر الذي يراه الضّامن لمصالحه، وانعكس التعصّب الحزبي على مبادرة الحوار الوطني التي أعلنها اتحاد الشغل أخيراً. وتبادلت الأطراف السياسيّة الاتّهامات بخصوص محاولة تعطيلها، فالحزب الدستوري الحر يرفض الجلوس إلى طاولة حوار تشارك فيها حركة النهضة، بدعوى أنها ذات خلفية إخوانية، وائتلاف الكرامة يرى اتحاد الشغل جزءاً من المشكل لا من الحل، والتيار الديمقراطي ورئيس الجمهورية يرفضان إشراك "المفسدين" في الحوار، وذلك في تلميح ضمني إلى حزب قلب تونس الذي تحوم حول رئيسه شبهاتٌ لم يحسم القضاء في شأنها بعد. ومن ثمّة، يوشك منطق الإقصاء والإقصاء المضادّ أن يُجهض مبادرة الحوار الوطني قبل أن تبدأ. وكان أحرى بالمتحزّبين، خلال هذه المرحلة الدّقيقة من تاريخ تونس، التّفكير في مصلحة المجموعة الوطنيّة، بدل التمترس خلف المسلّمات الأيديولوجيّة والاعتبارات الحزبيّة، ذلك أنّ التعصّب يتعارض مع مقتضيات الحكم الرشيد.
وتساهم في تأجيج أوار الأزمة السياسية في تونس حالة من الانفلات الإعلامي، فبعد الثورة تعدّدت وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمكتوبة، واتّسع المجال لحرّية التّفكير والتعبير بشكل غير مسبوق، غير أنّ عدم وجود قوانين صارمة واضحة منظّمة للقطاع الإعلاميّ وضعف أداء "هيئة الاتّصال السمعي البصري"، وتجاوزها مدّتها القانونية، أسهم هذا كله في ظهور منتجات إعلامية موغلة في التعصّب وترويج خطاب الإقصاء والتّخوين وتبخيس الثورة والنظام الديمقراطي. وورد في تقرير أعدته المجموعة العربية لرصد الإعلام وجمعيتان تونسيتان (المجلس الوطني للحريات بتونس وشبكة تحالف من أجل نساء تونس)، أن الإعلام التونسي بعد الثورة بات يؤدي دور التحريض، وتنمية مشاعر الحقد والكراهية بين مختلف أطياف الشعب. وتحولت قنوات تلفزيّة وإذاعيّة إلى أبواق حزبية تروّج خطاب التخوين والتكفير والقذف. وأخبر التّقرير أنّ الصحف الناطقة بالعربية نشرت نحو 90%من خطابات الكراهية، فيما اكتفت مثيلتها الناطقة بالفرنسية بالنسبة الباقية. وتضمن حوالى 13% من هذه الخطابات دعوات ضمنية أو صريحة إلى العنف. وأفاد التقرير بأن أكثر من 58% من المادة التي تضمنت خطابات الكراهية تعلقت، بشكل مباشر أو غير مباشر، بمحوري الأحزاب والدين، وبذلك ساهم الخطاب الإعلاميّ التّحريضيّ في تغذية أسباب الاحتقان الاجتماعيّ والسياسيّ.
ختاماً، يمكن القول إنّ العقل النخبوي السياسي التونسي عموماً، والعقل الحزبي خصوصاً، في حاجة إلى إجراء مراجعاتٍ نقديّةٍ ذاتيّةٍ عميقة، حتّى يتخلّص من ترسّبات العُصبوية الضيقة، ويواكب حركة الجموع نحو التنمية الشاملة والنهضة العامّة، وحتّى يستجيب لتطلّعات النّاس ولحركة البلاد نحو الدمقرطة المستدامة، الناجعة.