عن دبلوماسيين لم يعرفوا ما يجب وما لا يجب
يصف عارفون الوظيفة الدبلوماسية بأنها "كرسي ذهبي ينبغي أن يتقن الجالس عليه فن معرفة ما يجب فعله ومتى وأين، وقبل ذلك معرفة ما لا يجب فعله ومتى وأين"، والدبلوماسي الحصيف والذكي والمقتدر هو الذي يجمع بين هاتين الخصلتين معا.
مراجعة سريعة لمسيرة الدبلوماسية العراقية في السنوات العشرين المنصرمة تعطينا شواهد ودلائل على عكس ما تقوله هذه النظرية، إذ مذ خضعت الوظائف الدبلوماسية، وبخاصة المواقع المتقدّمة، للمحاصصة الطائفية والحزبية حتى امتلأت وزارة الخارجية بجيش من الأقارب والأعوان والمريدين ممن لا يمتلكون ما يؤهلهم لإشغال وظائف من هذا النوع، وقد كانت الحصيلة فضائح ومساخر أثارت الشفقة على وضع العراق في المحافل الدولية، وأساءت إلى سمعته.
يكفي أن نذكر ما سمعناه من فضائح في عام واحد فقط، وما خفي كان أعظم: القائم بالأعمال في لندن باع بطاقات دعوة موجهة من القصر الملكي الى السفارة مقابل مبالغ مالية. والسفير في بيروت أخذ ضيوفا شخصيين له في زيارة لموقع سياحي على الحدود مع سورية، وفي غمرة احتفائه بهم أطلق قاذفة "آر بي جي" مسبّبا حالة ترويع وهلع لدى السكان القريبين. والسفير في عمّان أقام حفلا تكريميا لمطرب لبناني اشتمل على مشاهد غير لائقة لزوجة السفير مع المطرب. والآخر، وليس الأخير، القائم بالأعمال في المنامة الذي تصرّف تصرّفا مستهجنا في حضرة ملك البحرين في أثناء حفل إفطار أقامه الملك. وسبق له أكثر من مرّة أن أرتكب ما يخالف الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، حيث كان قد أجرى اتصالاتٍ مع جهات بحرينية معارضة، وتردّد أنه نقل إليها رسائل من مليشيا عراقية!
ماذا بعد هذا؟ لا شيء طبعا سوى أن وزارة الخارجية استدعت هؤلاء السفراء الى مركز الوزارة، وفي كل مرّة كانت تعمد، بعد أن تهدأ العاصفة، الى نقل السفير المقصود إلى بلد آخر، لسبب بسيط، امتلاكه "حصانة" لا تتيح محاسبته عما يرتكبه من خطايا.
حقائب امتلأت بملايين الدولارات هُرّبت من العراق بأيدي حاملي جوازات دبلوماسية!
في خضم مثل هذه التداعيات، ماذا يمكن لهذه "العيّنات" أن تقدّمه للدبلوماسية العراقية ولعلاقات العراق مع المجتمع الدولي أكثر من هذا السلوك العابث واللامسؤول، وهل يمكن لها أن تجترح مبادرة أو تقترح حلا أو تقدّم ملاحظة أو حتى أن تكتب جملة مفيدة واحدة، وقد علمنا أجدادنا أن فاقد الشيء لا يعطيه؟
وعلى ذكر الجمل المفيدة، هذا بعض ما كتبه القائم بالأعمال في المنامة في تبرير أفعاله، وتعالوا نبحث عن جملة مفيدة واحدة: "نحن صارنا سنة نعمل بتنسيق مع وزارة نقل بحريني عراقي وتم زيارة عدة وفود من عراق بخصوص تشغيل خط طيران بين بلدين لخدمة جميع مواطنين من بلدين وأيضا زيارة عدد من مسئولين كبار أوضحوا مسئولين ذات اختصاص.." الى آخر مذكرته المضحكة التي رفعها إلى رؤسائه، والعهدة هنا على مواقع التواصل التي رأت ضرورة ترجمة المذكّرة الى اللغة العربية!
وإذا كان الشيءُ بالشيء يُذكر، ثمّة حكايات عن فضائح من "قماشة" دبلوماسية مختلفة، عن منح جوازات سفر دبلوماسية لـ"فاشينيستات"" وعارضات أزياء ومشاهير على تطبيق "تيك توك"، وفنانين ورياضيين، وكذا لكوادر مليشياوية وحزبية ليست لها مواقع رسمية، ولأقارب مسؤولين من الدرجة الرابعة وأكثر، وقد بلغ عدد الجوازات الدبلوماسية الممنوحة في السنة الأخيرة أكثر من أربعة آلاف جواز بإقرار وزير الداخلية نفسه الذي رفض طلبا برلمانيا بالكشف عن أسماء حامليها، وهذا العدد الخيالي دفع دولا عديدة إلى عدم الاعتراف بهم باستثناء من هم معتمدون للعمل في السفارة المعنية. ودعك مما هو معروفٌ أيضا أن حقائب امتلأت بملايين الدولارات هُرّبت من العراق بأيدي حاملي جوازات دبلوماسية!
بلغ عدد الجوازات الدبلوماسية الممنوحة في السنة الأخيرة أكثر من أربعة آلاف
هل لنا أن نصدّق بعد هذا كله مقولة وزارة الخارجية إنها "تعمل على الحفاظ على الأعراف الدبلوماسية (..) وتعزيز مكانة الدبلوماسية العراقية"، وهي لا تملك سلطة محاسبة عاملين لديها، لأنهم، وببساطة شديدة، مرتبطون بمليشيات وأحزاب حاكمة، كما لا تستطيع أن ترد طلبا لناشط مليشياوي أو كادر حزبي أو قريب لمسؤول متنفّذ في الحصول على جواز سفر دبلوماسي؟
وهل لنا أن نأمل أن تستعيد الدبلوماسية العراقية مجدها الآفل، ومكانتها التي كانت عليها أيام كان من بين سفرائها إلى العالم فاضل الجمالي وعصمت كتاني ونجدة فتحي صفوت وعبد الملك الياسين، وغيرهم ممن مثلوا العراق في المحافل الدولية التي ما تزال تُذكر مبادراتهم الخلاقة، ومشاركاتهم في طرح حلولٍ للأزمات، وبصماتهم العصية على النسيان؟
وقبل هذا وبعده، تبقى عشرات الأسئلة التي لا توفّر أجوبتها سوى الرثاء على ما آل إليه الحال في بلد عمره الحضاري ستة آلاف سنة.