عن دعوة مدفيديف إلى هندسة نظام أمني عالمي جديد
عبر نائب رئيس مجلس الأمن في روسيا، ورئيسها ورئيس وزرائها السابق، دميتري مدفيديف، في حديث مهم أدلى به لقناة الجزيرة، بثته في 4 يونيو/ حزيران الحالي، عن الحاجة إلى "هندسة نظام أمني عالمي جديد"، يقوم على التوازن ومراعاة مصالح الجميع. ولم يكتف بالدعوة إلى تأسيس نظام عالمي بديل للنظام الحالي الذي تتحكّم فيه الولايات المتحدة، إنما أكّد، في الوقت نفسه، على أن أحد أهم الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من "عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا" تمهيد الطريق نحو إقامة هذا النظام المأمول، ونقله من نطاق الأمل والحلم إلى أرض الواقع المعاش. ما يوحي بأن القيادة الروسية تبدو ليس فقط واعيةً أن جوهر الصراع الدائر حاليا بينها وبين الولايات المتحدة، عبر الساحة الأوكرانية، يتعلق، في حقيقة الأمر، بتغيير قواعد النظام الدولي الحالي، وإنما تبدو واثقةً، في الوقت نفسه، من قدرتها على الخروج منه منتصرة!.
لإدراك حقيقة ما يرمي إليه مدفيديف، وتدبر ما قد ينطوي عليه حديثه من معان صريحة أو مضمرة، يتعين علينا التمييز بين ثلاثة أبعاد رئيسية لنظام الأمن الدولي: مدى مواءمة النظام الحالي لتحقيق الأمن الجماعي لمجتمع الدول بتركيبته الراهنة. الشروط الواجب توفرها في أي نظام دولي مأمول، ليصبح قادرا على تلبية الاحتياجات الأمنية الراهنة للبشرية ككل. مدى قابلية هذا النظام المأمول للتحقق على أرض الواقع، والشروط اللازم توفرها ليصبح بيئة حاضنة لطموحاته الأمنية ومتجاوبا مع متطلباتها.
انتصار روسيا في الصراع على أوكرانيا قد يكون معناه تمكّنها من الحصول على قطعة أكبر من رقعة العشب التي تتصارع عليها القوى الدولية الكبرى
في ما يتعلق بالبعد الأول، يُلاحظ أن النظام الدولي الحالي يتسم بمفارقة شديدة الغرابة، فهو، على الصعيد النظري، مدوّن في مبادئ وقواعد وآليات أمن جماعي مكتوبة، يتضمنها ميثاق الأمم المتحدة الصادر عام 1945. ولأن نصوص هذا الميثاق ظلت جامدةً لم يطرأ عليها أي تغير منذ نشأة هذه المؤسسة الدولية التي لا تزال قائمة، فقد أصبحت الآن عاجزة تماما عن مواكبة التغيرات الهائلة التي طرأت على موازين القوة في النظام الدولي. ومعروفٌ أن ميثاق الأمم المتحدة كتب في نهاية الحرب العالمية الثانية، في مرحلة كان يُفترض فيها أن التحالف الدولي الذي تمكّن من تحقيق النصر في هذه الحرب قابل للاستمرار بعدها. لذا، أصبح التوافق التام بين أعضاء هذا التحالف، واحتلوا لاحقا مقاعد دائمة العضوية في مجلس الأمن، شرطا ضروريا لتشغيل منظومة الأمن الجماعي. ولأن هذا الشرط لم يتحقّق على أرض الواقع، بسبب انقسام التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية إلى معسكرين متصارعين واندلاع حرب باردة بينهما، فقد أصيبت المنظومة الأمنية للأمم المتحدة ببعض الشلل في مرحلة الحرب الباردة، لكنها كانت، رغم ذلك، قادرة على التكيف مع نظام دولي ثنائي القطبية، ينطوي على قدر من التوازن في القوى والمصالح. وحين انتفى هذا التوازن بسقوط إحدى ركيزتي النظام الدولي ثنائي القطبية ممثلة في الاتحاد السوفييتي، أصيبت منظومة الأمن الجماعي في الأمم المتحدة بشللٍ شبه تام. وهنا يمكن القول إن النظام الدولي الراهن اتسم، منذ البداية، بمفارقة غريبة. فهو، من ناحية، يتضمّن منظومة أمن جماعي كتبت إبّان الحرب العالمية الثانية التي انتصر فيها الاتحاد السوفييتي جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة وبريطانيا، لكن إدارتها آلت الآن إلى المعسكر المنتصر في الحرب الباردة التي هزم فيها الاتحاد السوفييتي، وهذا هو ما ترفضه روسيا الآن، بعد أن استعادت عافيتها، وبدأت تتطلع إلى المشاركة بشكل أكبر في قيادة النظام الدولي الراهن.
مبادئ وقواعد عمل النظام الدولي أصبحت الآن عاجزة تماما عن مواكبة التغيرات الهائلة التي طرأت على موازين القوة في النظام الدولي
وفي ما يتعلق بالبعد الثاني، يلاحظ أنه ينبغي توفر شرطين رئيسيين في أي نظام دولي مأمول. الأول: التعبير عن موازين القوى الحقيقية القائمة فيه حاليا، خصوصا بعد استعادة القوى التي هزمت في الحرب العالمية الثانية، مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا، مكانتها الدولية المفقودة، ودخول الصين حلبة المنافسة على قيادة النظام الدولي، واستعادة روسيا قواها المبعثرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فضلا عن بروز قوى صاعدة جديدة في مختلف القارّات، مثل الهند في آسيا والبرازيل في أميركا اللاتينية وجنوب أفريقيا في أفريقيا. الثاني: تحوّل المجتمع الدولي إلى قرية كونية واحدة، يرتبط فيها أمن الجزء عضويا بأمن الكل، وتعرّضه لمصادر تهديدات جديدة، كالتغير المناخي وانتشار الفقر والإرهاب والجريمة المنظمة .. إلخ، ما يفرض توسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن، ليعكس تشكيله الجديد مجمل التحولات في موازين القوة، وربما تغيير قواعد اتخاذ القرار فيه في الوقت نفسه، كي لا تتمكّن دولة واحدة أو تحالف إقليمي أو أيديولوجي من شلّ قدرته على العمل واتخاذ القرارات السريعة الفعالة، وكذلك إعادة تشكيل مهامّه وصلاحياته، ليتمكّن من مواجهة مصادر التهديد الجديدة للأمن الجماعي الذي أصبح يشمل أمن البشرية أو الانسانية ككل.
أصيبت المنظومة الأمنية للأمم المتحدة بشلل في مرحلة الحرب الباردة، لكنها كانت قادرة على التكيف مع نظام دولي ثنائي القطبية، ينطوي على قدر من التوازن في القوى والمصالح
وفي ما يتعلق بالبعد الثالث، يلاحظ أن بنية (وموازين) القوى القائمة في النظام الدولي، بتركيبته الحالية، لا تسمح بعمل جماعي ممنهج، يستهدف هندسة منظومة جديدة للأمن الجماعي، إما بإصلاح هياكل صنع القرار وآلياته في منظومة الأمم المتحدة الحالية، أو بإقامة منظومة جديدة. وبهذا الصدد، ينبغي أن نذكّر بحقيقة مؤلمة، أن المجتمع الدولي لم يصبح ناضجا ومؤهلا للبحث الجدّي عن منظومة أمن جماعي، إلا في أعقاب حربين عالميتين، فالتجربة الأولى لمنظومة الأمن الجماعي، والتي ولدت من خلال عصبة الأمم، لم تنضج إلا في أعقاب حربٍ عالميةٍ كانت هي الأولى من نوعها في تاريخ البشرية. والتجربة الثانية لهذه المنظومة، والتي ولدت من خلال الأمم المتحدة، لم تنضج إلا بعد حرب عالمية ثانية شهدت تحالفاتٍ غير طبيعية بين نظامين متعارضين، النظام الاشتراكي البازغ والنظام الرأسمالي الأكثر تجذّرا، في مواجهة مدٍّ نازيٍّ وفاشيٍّ عالمي شكل تهديدا لكليهما. ورغم أن تجربة الأمم المتحدة لا تزال حية، إلا أنها تعدّ شبه ميتة إكلينيكيا في الواقع، ولم تتهيأ الظروف بعد لإنضاج بيئة دولية تنطوي على ما يكفي من التوافق الدولي للشروع في بناء منظومة أمن جماعي جديدة، أو لإصلاح المنظومة القائمة حاليا. وهنا تتجلّى بوضوح أبعاد المفارقة التي ينطوي عليها، صراحة أو ضمنا، حديث مدفيديف المشار إليه، فما قاله عن عدم صلاحية النظام الدولي الحالي لإدارة منظومة الأمن الجماعي الدولي، بسبب هيمنة الولايات المتحدة وحلف الناتو عليه، أمر لا خلاف عليه، وما رتبه على هذه المقولة من وجود حاجة ملحّة لنظام دولي جديد يأخذ في اعتباره مصالح الجميع، ولا يتحكّم فيه طرف واحد بمفرده، يبدو أمرا منطقيا ومعقولا، لكنه حين يؤكّد أن الأزمة الأوكرانية ستنتهي حتما بتغيير قواعد النظام الدولي الحالي، وتأسيس نظام دولي جديد أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق أمن المجتمع الدولي، يخاطر بافتراض يصعب التسليم به على إطلاقه، ومن ثم يتعيّن إخضاعه للفحص والتمحيص والنقاش. قد يكون الهدف مما قال مجرّد التأكيد على ثقته الكبيرة في خروج روسيا منتصرةً من هذه الأزمة، وهذا من حقه، لكن انتصار روسيا في الصراع على أوكرانيا، حتى بافتراض إمكانية تحققه، قد يكون معناه تمكّنها من الحصول على قطعة أكبر من رقعة العشب التي تتصارع عليها القوى الدولية الكبرى. ولكن ليس حتما وبالضرورة أن يسفر هذا الانتصار عن نظام أمن جماعي دولي أكثر قدرة وكفاءة على مواجهة مصادر التهديد المتجدّدة في النظام الدولي، وعلى حماية أمن البشرية، باعتبارها كلا واحدا لا يتجزأ، فهذا هدف لا يزال بعيد المنال.
أتفق مع وجهة النظر القائلة إن الصراع الدائر على الساحة الأوكرانية في جوهره صراع على قواعد النظام الدولي الحالي، بين طرف يسعى إلى تغييرها، تمثله روسيا، وطرف آخر يسعى إلى التمسّك بها وللابقاء عليها كما هي، حفاظا على وضعه المهيمن، تمثله الولايات المتحدة. لكن نتيجته، من منظور مدى تأثيره على مستقبل النظام الدولي، لن تخرج عن واحد من سيناريوهات ثلاث، يمكن إجمالها على النحو التالي: خروج الولايات المتحدة وحلفائها منتصرين، ما يعني تمكّنهم من المحافظة على وضعهم المهيمن في النظام الدولي الحالي، وقطع الطريق على إمكانية إقامة نظام دولي جديد متعدّد الأقطاب. خروج روسيا منتصرة، ما يعني تمكّنها من كسر الهيمنة الأميركية المنفردة على النظام الدولي القائم حاليا، وبالتالي تغيير قواعده بما يسمح لها بممارسة نفوذ أكبر فيه، خصوصا أن روسيا دولة مستفيدة من هذا النظام، بحكم تمتّعها بمقعد دائم في مجلس الأمن، وبالتالي بحق الفيتو، لكن الشروط المطلوبة لإقامة نظام دولي مختلف، بالمعنى المشار إليه آنفا، لن تتوفر تلقائيا وبالضرورة في مثل هذه الحالة. إطالة أمد النزاع بما يكفي لاستنزاف الطرفين المتصارعين، ودخوله مرحلة تهدد بنشوب حرب نووية شاملة، ما قد يؤدّي إلى حالة استفاقة مفاجئة قد تدفع قادة القوى الكبرى إلى التوافق حول الدعوة إلى مؤتمر عام لتأسيس منظومة جديدة للأمن الجماعي، غير أن هذا السيناريو يبدو محفوفا بالمخاطر في الوقت نفسه، لأن سياسة حافّة الهاوية قد تنتهي بالوقوع فيها. وعلى أي حال، يؤكّد هذا السيناريو أن المجتمع الدولي يعيش في المرحلة الراهنة حالة من السيولة الخطرة والفوضى غير الخلاقة.