عن رحيل "شنجوب" العُماني
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
من مصادفات القدر أن يرحل الفنان العُماني، صالح شويرد، في الأسبوع نفسه الذي رحل فيه الممثل الفرنسي، جان بول بلموندو، الذي حظي بوداع رسمي وازن، حضره رموز السياسة والثقافة والفن في فرنسا. بينما مات "الذي سكن منازل جميع العُمانيين"، كما وصفه الصديق حمد الصبحي في صفحته في "فيسبوك"، وحيدا، إلا من ثنايا ذاكرة الأجيال التي عاصرت فنه. فذاكرة السبعينيات والثمانينيات تترصع بقفشات هذا الفنان، مع رفيقته الممثلة، فخرية خميس، خصوصا في مسلسل "شنجوب والفكّ المفترس" الذي حملا فيه اسمين غارقين في المحلية. حمل شويرد اسم شنجوب، ويعني سلطعون البحر القشري الذي يركض بخفة على الرمال ويختفي في الوقت المناسب. وحملت فخرية اسم فاغورة، وتعني الكلمة حبّة التمر التي لم تنضج بعد، وتغلّى في أفران خاصة تخرج منها شهيةً حلاوتُها لا تُقاوم. وهي طبخة اختصّ بها العُمانيون ضمن مأكولاتهم في الحلويات التراثية التي من أهمها الحلوى العُمانية، و"الجولة وعسل التمر" و"الخبيصة".
ولأنّ الأذن اعتادت على سماع اسمي "فاغورة" و"شنجوب"، فقد ظل اسما الفنانين يتردّدان عليها، حتى بعد أن مثّلا في مسلسلات كثيرة بعد "شنجوب والفك المفترس"، الذي كان من تأليف صالح شويرد نفسه. وأتذكّر أن فخرية خميس سكنت بالقرب من منزل أحد أقاربي، فكان السكّان هناك يطلقون تلقائيا وببراءة اسم "فاغورة" عندما تمرّ بسيارتها. وخيرا فعلت وقد اختارت لقبا "حلوا" مزدوج الدلالة، يشير إلى الفاكهة والفكاهة معا.
كانت لصالح شويرد أو "شنجوب"، شعبية كاسحة، خصوصا في القرى التي كأنما يتعرّف أهاليها على الضحك لأول مرة، إذ كانوا يستمعون إلى مسلسلاته من المذياع، حين لم يكن التلفزيون قد وصل إليهم بعد. ولطالما أضحكتني في طفولتي الحوارات التي كانت تدور بين الثنائي "فاغورة" و"شنجوب"، وهي حواراتٌ لو سمعناها الآن لضحكنا عليها، لسذاجتها، من قبيل حوارٍ ما زلت أتذكّره، حين شعر "شنجوب" بالصداع، فأحضرت له فاغورة حبّة مسكّن، وما إن شرب الماء وبلغ الحبّة، حتى بادرته "فاغورة" بسؤال: هل خفّ الصداع شنجوبي؟ فصرخ في وجهها: يا بنت الحلال، بعدها الحبّة في حلقي، كيف يروح الصداع بهذه السرعة؟ تو مو هاذي البغومية بو فيش؟.. و"البغومية" معناها الغباء، و"بو فيش" معناها الذي فيك.
هناك فنانون في بلدان العالم الثالث يمتلكون شعبية كاسحة، في بلدانهم فقط. على سبيل المثال الموسيقار الأفغاني أحمد ظاهر، الذي كان يحظى بشعبية واسعة في العهد الملكي الأفغاني، أي قبل 1975. يقول عنه الكاتب الأفغاني خالد حسيني "كان أحمد ظاهر، ذو الشعبية الكاسحة، قد أحدث ثورة في الموسيقى الأفغانية، وأثار غضب المحافظين، بإضافة غيتارات كهربائية وآلات إيقاعية وأبواق إلى الطبلة والأرغن، وكان يتخلّى عن الجدّية التي تقترب من العبوس لدى المغنين الأقدم، بل كان يبتسم حتى وهو يغنّي".
كان صالح شويرد، الذي قضى ردحا من حياته في الكويت، كما درس المسرح في القاهرة، قبل أن يعود إلى عُمان في 1972، ويعمل مذيعا في بداياته، ثم مسرحيا، هو الآخر، يبتسم وهو يؤدّي جميع أدواره ذات الطابع الاجتماعي النقدي الساخر، بل قلما تلحظه متجهما. فقط حين تراه خارج الأستوديو أو تصادفه في الشارع، ستعرف على الفور كم هو حزينٌ ومهمّش، إذ لا تفارقه تلك الصورة المتجهّمة التي تشبه احتجاجا صامتا.
وكان شويرد يؤلف أغاني مسلسلاته ويغنيها بنفسه، وهي كلماتٌ ذات قفشات محلية مضحكة. وله الفضل في إدخال عناصر جديدة إلى الدراما في عُمان، من أهمها النقد الساخر، وخصوصا الاجتماعي منه. ولأن هذا النقد يمكنه أن يمتدّ، ويطاول حتى الخدمات العامة والقصور الوزارية المغلقة، في ظل وجود مسؤولين حكوميين يعتبرون أنفسهم فوق النقد، فقد شُنّت عليه "الحرب الباردة"، ومن قلب المؤسسة التي يعمل فيها. وكان من نتائج هذه الحرب الملموسة منعُ بعض مسلسلاته في أوج بثّها، فانتكس الممثل الكوميدي على عقبيه، وعاش حياة كئيبة مظلمة، مبتعدا عن الأضواء القليلة التي أسهم يوما في إنارتها في وجه ظلام التجهم والتحكّم، إلى أن رحل في صمت رسمي، لا يليق بفنان من حجمه وقيمته.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية