عن سؤال الهوية والمواطنة والتوطين في الأردن
شهدت الأوساط السياسية والنخبوية الأردنية سجالاً حادّاً حول مصطلح "الهوية الوطنية الجامعة"، الذي ورد في ديباجة اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وهو مفهوم سيمرّ مرور الكرام بوصفه أمراً بديهياً في أغلب الدول، لكنّه في الحالة الأردنية لم يكن كذلك، بل اعتبره بعضهم جزءاً من مسلسل "مؤامرة الوطن البديل" التي تحيق بالأردن!
وصف الجامعة يعني، باختصار، أنّ الهوية الوطنية تعترف بالتعدّد والتنوع الاجتماعي والديني والثقافي والإثني، ولا تستثني أحداً، ولا تُختزل في جزء من المجتمع، ولا تستبعد الآخرين. وهكذا قرأتها نخبة من الشباب الأردني القيادي الفاعل، الذين شاركوا في صياغة ميثاق الشباب الأردني "النهج الذي نريد" (من خلال ورشة عمل موسّعة عقدها معهد السياسة والمجتمع في الأردن)، إذ أقرّ ما يقارب 90% منهم بأنّ المصطلح إيجابي، لكنّ 10% رأوا أنّه بمثابة اسم حركي للوطن البديل، ولتغيير هوية الدولة وتوطين اللاجئين.. إلخ.
في أغلب السياسات العربية دساتير غير مكتوبة تضع قواعد عرفية (من الأعراف) لعلاقة الدولة بالمواطنين
موضوع الهوية، وإن لم يظهر بصورة غير مباشرة أو مرئية في أوقات كثيرة، إلا أنّه يقتحم مجالاتٍ كثيرة، ويتغلغل فيها بصورة مخيفة بما يقرع جرس الخطر، وهو بالمناسبة أمرٌ لا يتعلق بمسألة الأصول الشرق أردنية والفلسطينية للأردنيين عموماً، بل على صعيد جميع الهويات الفرعية، فيأخذ طابعاً دينياً واقتصادياً وجغرافياً في أحيانٍ كثيرة.
قد تكون هذه التفاعلات طبيعية ومنطقية في سياق الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة، وفي سياق التحوّل الكبير في علاقة الدولة بالمواطنين، خاصة التخلّي عن الدور الريعي للدولة، وما يؤدي إليه من توفير الوظائف، وهو يعكس أيضاً الشعور بالقلق من المستقبل، وعدم وجود تصوّر قانوني- سياسي- مجتمعي واضح لبنية العلاقة بين الدولة والمواطن، وسؤال الحقوق والواجبات. وقد يجادل بعضهم بأنّ ذلك موجود في الدستور، وهو صحيحٌ، لكن هنالك في أغلب السياسات العربية دساتير غير مكتوبة تضع قواعد عرفية (من الأعراف) لعلاقة الدولة بالمواطنين وأسس العلاقة السياسية، وهذا هو الذي يحتاج إلى توضيح، أو تصحيح بعبارةٍ أكثر دقة.
لمّا تشكلت لجنة تحديث المنظومة السياسية اتُّهمت بأنّها تسعى إلى التوطين
المفارقة أنّ موضوع الهوية طالما استخدم فزّاعة ضد الإصلاح السياسي والتطوير والتحديث. عندما أثير موضوع الدولة المدنية قيل إنّه مخصص لضرب "البنية الاجتماعية العشائرية". وعندما طرحت حكومة سابقة مصطلح "العقد الاجتماعي الجديد" اتهمت بأنّها تسعى إلى تنفيذ برنامج البنك الدولي ضرب الهوية الوطنية الأردنية. ولمّا تشكلت لجنة تحديث المنظومة السياسية اتهمت بأنّها تسعى إلى التوطين، ثم قامت الدنيا ولم تقعد من تيار من السياسيين والمثقفين ضد مصطلح الهوية الوطنية الجامعة. والطريف أنّ هنالك تياراً سياسياً ما يزال يجادل بأنّه لا داعي لطرح موضوع الهوية والمواطنة، فلا توجد لدينا أزمة، وكأنّ المطلوب ألا تكون هنالك حلول ولا أجوبة على تساؤلاتٍ أصبحت بالفعل تتطلب إطاراً وطنياً واضحاً.
هنا بيت القصيد. إذا تجاوزنا طرفي السجال وقفزنا عن الحجج المتبادلة؛ فإنّ السؤال الأكثر أهمية هو لماذا ما يزال موضوع الهوية الوطنية جدلياً وإشكالياً؟ وتنبثق عن السؤال جملة من التساؤلات المهمة والرئيسية: لماذا يثير مفهوم الهوية الوطنية الجامعة كل هذه الهواجس والمخاوف المتبادلة؟ ولماذا لم تتدخل الدولة بصورة واضحة لتبني إجماعاً وطنياً واضحاً صريحاً مسنوداً بسرديةٍ صلبة؟ لماذا يبقى هذا الموضوع ضمن المنطقة الرمادية، أخذاً معه مفهوم المواطنة نفسه إلى مساحاتٍ ملتبسة؟ والمفارقة أنّ كليهما، أي الهوية الوطنية والمواطنة، من المفاهيم التي تمثل صمام أمان ومصدر قوة للمجتمعات؟ هل مثل هذا السجال يعكس "هشاشة" في الحالة الداخلية مسكوتاً عنها؟ وهل فعلاً تجنّبت الدولة الدخول فيه لارتباطه باستحقاقات أخرى، مثل القضية الفلسطينية وحق العودة والحل النهائي .. إلخ، أم أنّ الموضوع تُرك من دون محاولة بناء مقاربة وطنية عقلانية شمولية توافقية؟ وهل يعقل أن يبقى مثل هذا الموضوع معلّقاً وضبابياً؟
هل من الصعب فكّ الاشتباك في هوية الدولة، لنقول إنّها دولة حديثة مدنية ديمقراطية، مثلاً، وتستوعب الجميع؟
هل من الصعب على الدولة أن تقدّم جواباً عن هذا السؤال بالاستعانة بعلماء السياسة والقانون والمثقفين والأدباء؟ جواب يجمع بين الاعتراف بمواطنة كل من يحمل الرقم الوطني الأردني وبشمولية الهوية الوطنية للجميع من جهة، وتبديد مخاوف الأردنيين من أصول شرق أردنية من القبول الأردني بالضغوط الإسرائيلية - الأميركية لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن؟ من خلال مصطلحات دستورية، قانونية، سياسية واضحة وصلبة، وتقطع قول كل خطيب أو مشكك أو متحيّن للاصطياد في المياه العكرة.
هل من الصعب فكّ الاشتباك في هوية الدولة، لنقول إنّها دولة حديثة مدنية ديمقراطية، مثلاً، وتستوعب الجميع، ولكنها لا تنكر دور الهويات الاجتماعية في بناء الهوية الوطنية، ولا تتنكّر للتراث والرموز والسرديات التاريخية، بل تنبني عليها، أنّها حاصل جمع الهويات المتنوّعة والمتعددة، وليس حاصل قسمة أو طرح؟
من الضروري ألا نتجاوز الهواجس والمخاوف، ونُغمض العين عنها، بل المطلوب بناء رؤية مشتركة عقلانية وطنية، تمثّل مساحة مشتركة واسعة للجميع، لا أن نترك موضوعاً مهماً وحيوياً يتدحرج ويستثمر ويوظف بصورة كارثية.