عن صحوة الشيوعيين العراقيين الناقصة
نحن أمام صحوة جديدة للشيوعيين العراقيين، ولو جاءت ناقصةً، ومتأخرةً أيضاً كسابقاتها، وهم اعتادوا زمناً النظر إلى ما يجري في بلادهم بعين قاصرة. وحتى عندما أوقف العراق عنوة عند مفرق طريق سلبت فيه سيادته وأطيح استقلاله ظلوا متردّدين، وهم يريدون اليوم أن يستدركوا ما فات عليهم وما فاتنا منهم، وما نعرفه عنهم أنهم على امتداد عقود وهم يطرحون أنفسهم دعاة إلى التغيير الشامل، ويصطفّون يساراً، ويقارعون في أديباتهم "الاستعمار والإمبريالية والإقطاع والعنصرية والطائفية"، وقد استطاعوا في مرحلة أن يقودوا تظاهرات مليونية كانت تسرّ الأصدقاء، وتُرعب الخصوم، لكنهم، وفي غفلة من زمنهم الجميل، انعطفوا يميناً، ووضعوا أيديهم بيد المحتل الأميركي الذي غزا بلادهم، وارتضوا لأنفسهم أن يدخلوا "مجلس الحكم الانتقالي" الذي أسّسه أول حاكم للعراق بعد الاحتلال، بول بريمر، إذ قبل سكرتير الحزب، حميد مجيد موسى، أن يكون ممثلاً عن طائفته في المجلس، حتى من دون أن يضع شرطاً أو يقدّم مطلباً، وجاء قبول بريمر هذه الخطوة بناء على مقترح بريطاني، بحسب ما ذكره في مذكراته. وبذلك يكون الشيوعيون قد تشاركوا في حكم البلاد، ووافقوا على الدستور الهجين الذي وضعه الأميركيون، بزعم أنه "يوفر لكل مواطن عراقي مكاناً وظرفاً مناسبين لممارسة مواطنته". ووصفوا مجلس الحكم بأنه "وحده القادر على كسب ثقة العراقيين، والمؤهل لاستقطاب تأييد أوسع الجماهير وتحشيد إسنادهم له". كما شاركوا في الانتخابات البرلمانية أكثر من دورة، وتحوّلوا إلى ذيلٍ لأكثر من طرف من أطراف "العملية السياسية" الطائفية، وكسبوا مرّة موقعاً وزارياً، ومرّة مقعداً برلمانياً، لكنهم في المرّتين ربحوا ملوك الطوائف والإثنيات وخسروا أنفسهم. وها هم يعترفون ببؤس ما فعلوه، وجاءت صحوتهم اليوم، كما صحوات سابقات، ناقصة ومتأخّرة أيضاً، إلا أنها خطوة في اتجاه نراه ضرورياً كي تعيد للحزب بعضاً من مجده الآفل، وحتى تعطي ثمارها وتكتمل ينبغي أن تقترن بخطوات أخرى.
يجد الحزب، مرّة أخرى، في "الانتخابات المبكّرة" الوصفة السحرية التي قد تقود إلى حلّ
الصحوة الأخيرة عبّر عنها تقرير للحزب أقرّ بأن "ما بات ملحّاً وضرورياً تدشين صفحة جديدة تحت راية التغيير الشامل تفتح آفاقاً واعدة لغد الديمقراطية الحقّة ودولة المؤسسات والقانون والمواطنة والعدالة الاجتماعية". ولكي يخلي الشيوعيون مسؤوليتهم عن أخطاء السنوات العشرين المنصرمة وخطاياها، قدّموا عرضاً مسهباً لواقع الحال المتردّي. ومن بين ما ثبتوه في تقريرهم إشارات لافتة إلى تغوّل منظومة الفساد، وتصاعد معدلات الجريمة والانتحار، وتفشّي الفقر إلى حد أن أكثر من مليون مواطن تحت خط الفقر، والرقم هنا رقم رسمي، إذ إن عدد الفقراء، كما يقول التقرير، أكثر من ذلك بكثير.
يُحسب لمعدّي التقرير أيضاً اعترافهم بأن نهج المحاصصة الطائفية والإثنية الذي شاركوا فيه منذ البداية هو "أس فشل وفساد المنظومة الحاكمة"، وأن حكومة محمد شياع السوداني التي جاءت بعد حالة استعصاء طويلة الأمد لم تخرُج عن هذا المنهج، وهي رهينة توافقات المصالح الضيقة نفسها. ولذلك من غير المتوقّع أن تتمكّن من تحقيق ما يأمله بعضهم منها، لكن الحزب، مرّة أخرى، يجد في "الانتخابات المبكّرة" الوصفة السحرية التي قد تقود إلى حلّ، على أن تتوفر لها مقومات النجاح في قانون جديد يضمن نزاهتها وشفافيتها، ومفوضية انتخاباتٍ غير محسوبة على حزب أو جهة.
تجاهل الحزب الشيوعي هيمنة إيران على القرار العراقي الظاهرة انتشار المليشيات وتوغلها في الحياة السياسية
ما هو أكثر أهمية من هذا الذي أشار إليه الحزب ثمّة ظاهرتان تجاهلهما تشتغل إحداهما من فائض قوة الأخرى، وتشكّلان معاً العائق الأكبر أمام أي تغيير حقيقي يصحّح المسار الحالي للعراق، ويؤسّس لمسار جديد: الأولى، هيمنة إيران على القرار العراقي، إذ استطاعت طهران في عملها الدؤوب على امتداد السنوات العشرين أن تبني دولة عميقة على الأرض العراقية، تجعل من حكومة بغداد تابعة لها عملياً في صيغةٍ ليست أقل من الاحتلال. ويعرف الشيوعيون العراقيون هذه الحقيقة، لكنهم، في تقريرهم مرّوا عليها مرور الكرام، مكتفين بالتلميح العابر عن "انتهاكات فظّة لسيادة العراق من جانب تركيا وإيران"، وليس أكثر من ذلك. والظاهرة الثانية التي نأى الحزب بنفسه عنها انتشار المليشيات وتوغلها في الحياة السياسية العراقية وفي المجتمع العراقي، على نحو بات يهدّد سلامة المجتمع والدولة نفسها. وقد اكتفى الحزب بوصف رجالها بأنهم "ذوو الأجندات الخاصة المدجّجون بالسلاح والمتماهون مع مشاريع خارجية"، ولم يفصح أكثر.
وهكذا، بدون النظر إلى هاتين الظاهرتين وحسابهما تظلّ صحوة الشيوعيين العراقيين، هذه المرة أيضاً كما سابقاتها، ناقصةً وغير مكتملة، وغير ذات فعل.