عن ضحالة مؤسّسة تكوين في مصر
هناك جدلٌ قديمٌ، يدور بشأن العلاقة بين الثقافة والواقع، والثقافة والسلطة، والثقافة والوعي العام؛ وتنقسم الاتجاهات بين اتجاهين عريضين، أحدهما يقول بانفصال الثقافة عن السلطة والواقع، وإنّ الثقافة لها مجالها الخاص، وقضاياها ثقافية بامتياز، وفي هذا، سنجد تيّارات ثقافية مُتعدّدة، تنويرية، وتراثية، ودينية، وماركسية، وليبرالية، ولا صلة لها بمشكلات وواقع الناس، والواقعين الاقتصادي والاجتماعي عموماً، واتجاه آخر، يرى أنَّ لتلك المجالات قضاياها الثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ولكنّها مترابطة مع بعضها من ناحية أخرى، أي منفصلة ومتصلة؛ فهي نتاج الواقع، وتتقصّد فهمه وتفسيره وتغييره. وطبعاً، لسنا معنيين بمن يشترط صلةً مباشرةً بين الثقافة والسلطة مثلاً، أو انفصالاً مطلقاً للثقافة عن باقي المجالات. إنّ هذه الحالات المُتطرّفة في الفهم، تفترضها الثقافة، ولكنّها ذات تأثير هامشي، ولهذا نضعها جانباً.
حاولت الاستماع إلى بعض المُثقّفين، المؤسّسين لـ"تكوين" في مصر، لفهم أهدافهم، وقضاياهم، وماذا يبتغون من مؤسّسة تكوين الفكر، التي أطلقوها في 4 مايو/ أيار الحالي، وتتعلّق الأهداف بأحوال الثقافة والفكر العربي، وبأنّها في حالة يُرثى لها، وبالتالي، ولأنّ الفكر في الحالة هذه، فالواقع العربي بكلّيته في حالةٍ رثّةٍ أيضاً. ولإيقاف التدهور، هذا، لا بدّ من فكر وثقافة جديدين، تجادل في الثقافة والفكر الرثّين، وتنتشلهما مما هما فيه. إذاً، لا علاقة للسلطات العربية الحاكمة وأيديولوجياتها في الأحوال الكارثية للثقافة والفكر، وهي بالفعل كارثية، وفاقدة للمشاريع التاريخية، وكثير منها يدور حول قضايا ثقافية بامتياز، ودينية بشكل مُبتَسرٍ، ولا بدّ، بالفعل، من مواجهة هذه الأحوال، ولكن كيف المواجهة تلك؛ أبتأسيس مؤسّسات للفكر وبقطيعة مع أزمات الواقع المعقّدة، التي هي في أسبابها الأساسية نتاج الطبقات الحاكمة وأيديولوجياتها وسياساتها التعليمية، وبسبب شموليتها، التي تحكم بها المجتمعات، وتمنع عنها التعدّدية والنقاش والاختلاف، وبالطبع، تُكبّل سلطات القضاء والصحافة والحرّيات، وبالتالي، تمنع تشكيل مجتمع منفتح، ويتم فيه تداول الأفكار والخلاف والنقاش والصراعات الفكرية؟... تلك الشمولية هي التي تدفع أغلبية الشعوب العربية نحو التديّن السياسي، والتطييف، والانشغال بقضايا الحياة اليومية، وساعات العمل الطويلة، أو بالهجرة، وبكلّ أشكال الإحباط. وبالتالي، ليس هناك بالفعل استقرارٌ مجتمعيٌّ عام، ومولّدٌ لمجتمع مُثقّف ومتعدّد الفِكَر.
إنّ تغيير الوعي يتطلب تغيير الواقع، وإنّ أسباب الجمود الأساسية هي سياسات الأنظمة
تجاهل مؤسّسة تكوين الفكر الواقعَ العام، واختصار تردّيه بأحوال الثقافة المتردّية، هو ثقافي تبريري للأنظمة، ولو لم يقصد ذلك، أي لو لم يكن مكلّفاً بذلك، وبدفعٍ من الأنظمة، وتحديداً النظام المصري، وكي ينشغل الفكر بقضايا فكريّة بامتياز، بدلاً من أن يُناقش هذا الاتجاه قضايا الواقع العربي، ومنها أحوال الثقافة المتردّية بالفعل. لن ننطلق من الموقف من الإبادة في غزّة، وضرورة أن يكون المُثقّف روح الأمة، أو روح البلاد، أو يمتلك ضميراً يدفعه إلى الذهاب إلى كلّ أصقاع العالم، للدفاع عن غزّة وفلسطين، وأيضاً، لن نقول إنّ مهمة المُثقّف هي تقديم دراسات ورؤى عن أحوال الشعوب، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فما هي أحوال الشعوب العربية في هذه اللحظة، من النواحي المذكورة أعلاه؟ ومن الذي يتحكّم في المجتمعات العربية سياسياً، واقتصادياً، وتعليمياً، ومن يمتلك الإعلام، أليست السلطات هي التي تراقب الإعلام ومختلف الإصدارات الثقافية، والدينية، والطائفية، والعلمانية، وسواها؟
من السخرية بمكان أن تنفصل الثقافة عن قضايا الشعوب، وهذا تعبير فاضح عن الصمت تجاه ممارسات السلطة، وفي المستويات كافّة، وحتّى على المستوى الثقافي؛ والأسوأ، أن يُنظر إلى أحوال الثقافة من خلال وعيِّ الناس البسطاء، وأنّه لا بدّ من انتشاله من مشكلاته وعمائه وظُلماته، وبتجاهل كاملٍ أنّ ذلك الوعي هو نتاج الواقع بكليته، وبالتالي، إنّ تغيير الوعي يتطلب تغيير الواقع، وإنّ أسباب جموده الأساسية هي سياسات الأنظمة، وبالتالي، يصبح توجّه فكري كهذا لأصحاب مؤسّسة تكوين الفكر، من دعاة دفع العربة، ورفض أن يكون في مقدمتها أيّ حصان، وهم يعلمون أنّ لا عربة من دون حصانٍ أو سائق.
يجب أن يكون لمؤسّسة تكوين الفكر كامل الحرّية في العمل وفي طرح الأفكار، ورفض كلّ محاولات التضييق عليها
هل نقصد أنّ أحوال العرب الثقافية، وأشكال الوعي السائدة، في حالة تقدّم، وتنوير وحداثة، وفصلٍ بين أحوال الثقافة وأحوال السلطة؟ ... قطعاً أحوال العرب، قبل إبادة غزّة، والآن، هي في أسوأ حال، وتحتاج مزيداً من مراكز الأبحاث، ومؤسّسات الفكر، والثقافة، والجامعات المشغولة بقضايا الثقافة وأزمات وحاجات الواقع، وأن تكون حرّة بالفعل، وأن تمتلك مشروعاً ثقافياً، وأن تُناقَش فيها أحوال الواقع كافّة، وأزماته، ومن دون خلطٍ بين مجالٍ وآخر، ولكن، من العار على الثقافة أن تتجاهل السبب المركزي لتخلّفها، وهو سبب غير ثقافي، ونقصد به الأنظمة الشمولية، القامعة للحرّيات، وللتعدّدية، والمُهمّشة للمسألتين؛ التعليمية والثقافية. ستذهب أكثرية الناس نحو أفكارٍ تتعلّق بالخرافة، أو الماورائيات، حين يكون الواقع في أزماتٍ متعدّدة الأوجه ومن دون أفقٍ للتغيير، وسيكون للتفكير الإقصائي والمتعصّب، والمتشدّد دينياً وطائفياً، مساحة كبرى. الاستنتاج بأنّ الخروج من هكذا واقع يبدأ بتنقية الثقافة، وجعلها تنويرية وحداثية وإسلامية مستنيرة، هو اتجاه ثقافي يخدم، وربما ليس بقصدٍ، السلطات الحاكمة، ويبرّئها مما تعيشه الشعوب من أزمات أنتجتها السلطات القمعية والناهبة والتابعة. مصر، الآن، في أسوأ أحوالها، وقابلة للانفجار في المستويات كافّة، فهل يُعقل تجاهل ذلك؟
الثقافة، إمّا أن تَعكس أحوال الشعوب، فتجد لها مكانة كبرى وتنتشر وتحدّث الوعي، وضمن ذلك، يجب أن يكون لمؤسّسة تكوين الفكر كامل الحرّية في العمل وفي طرح الأفكار، ورفض كلّ محاولات التضييق عليها، ومن أيّ جهةٍ كانت، أَمِنَ السلطة أو من الاتجاهات الفكرية والدينية والطائفية، وسواها، وإمّا أنّها تخدم السلطة وتؤبّدها، وبطرائق لا حصر لها، ومنها أنّ الثقافة منفصلة عن الأرض والسماء، وعن السلطة والشعب، وأنّ لها عالمها الخاص، المُستقلّ بذاته، ولذاته؛ يا للتكوين الهشّ لمؤسّسة "تكوين".