عن عبدُه جبير وذلك المساء
لعلّها الهدنة المؤقّتة في غزّة تبيح لصاحب هذه المساحة الأسبوعية انعطافةً مؤقّتةً إلى الكتابة عن غير المذبحة. عن الروائي والقاصّ المصري عبدُه جبير، الذي عبرَ نبأ وفاته عن 75 عاما، في غضون تتالي أنباء العدوان، في بيتِه الريفي في قرية تونس (هذا اسمُها) في الفيوم، والذي سمّاه "زاد المسافر"، وكان قد ابتناه منذ نحو 20 عاما، إبّان عمله عشر سنواتٍ في صحيفة القبس ومجلة الفنون في الكويت، وهو الذي كان قد احترفَ الصحافة، الثقافية خصوصا، منذ عمله عاميْن في بيروت وسط السبعينيات في صحيفة السفير، ولاحقا في غير مجلةٍ ثقافيةٍ ودار نشرٍ مصرية. غير أنه ظلّ وفيّا لنزعتِه إلى التجريب في كتابته رواياته القليلة (وقليلة الصفحات أيضا)، ذات الصعوبة، إلى حدّ ما، في بناءاتها وتقاطعات سرودها، ووفيّا لشغفه بالحكاية التي تضج بالحميميّ والرهيف، ووفيّا لأصدقائه ولكثيرين من كتّاب مصر وفنّانيها، ممن شملهم في أحاديث عنهم في نصوصٍ من سيرته التي ضمّنها غير كتاب وغير مقالة (وكتابه "البستان والراديو" مثلا)، وفي سِير غيْريّة، سيّما في "النغم الشارد ... " عن أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، والذي يعدّ مدوّنةً كاشفةً وموثوقةً عن شطرٍ من تاريخ مصر الثقافي والفني الموصول بالسياسي والاجتماعي العام.
لم يُحرز عبدُه جبير شُهرةً عريضة، كما كثيرون من مجايليه، وهو المحسوبُ، عن حقّ، من أبرز أدباء السبعينيات المصريين، سيما وأنه ظلّ يُؤثر شيئا من العزلة، مع زهدٍ ظاهرٍ عن الإعلام والأسفار والجوائز (لم يكن يتقدّم لأيٍّ منها)، في خيارٍ شخصيٍّ له، لم يتوقّف، في أثنائه، عن التواصل مع أصدقائه ومعارفه القدامى، ولم يبتعد به تماما عن الكتابة، وعن إشهاره آراءه في شؤون بلده. وحسنا أنه أعاد إصدار أعماله في طبعاتٍ جديدةٍ من دار نشرٍ قاهرية، لكنها لم تحظ بالتوزيع الجيّد وبالإضاءات النقدية والصحافية، وهو الكاتب الذي لا تُسلّم نصوصُه نفسها إلى قارئها بيُسر، قناعةً منه بأن على المتلقّي جُهدا خاصّا في تأويل النص. يتّضح هذا في "تحريك القلب" (1982)، روايته الأولى التي أتذكّر قراءتي لها قبل نحو أربعة عقود، وإعجابي بها، من دون أن أتذكّر منها الآن شيئا، غير البهجة بتفكيك الغموض الرفيع فيها. وقد أتْبعَها عبدُه جبير بأعمال أخرى، منها "ثلاثية سبيل الشخص" و"عطلة رضوان" و"مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان" التي استوحى أجواءً فيها من مُقامه في الكويت. غير أنه في قصصه القصيرة (وبعضُها طويلة) في "فارس على حصانٍ من خشب" (1978) و"الوداع تاج من العُشب"، وغيرهما، يبدو منتشيا بالذي يحكي عنه، عن شخصياتٍ من صعيد مصر (عبدُه من هناك وليس من الرّيف الذي أقام وتوفي فيه) ومن الأرياف، ومن القاهرة التي "هرب" إليها من الصعيد في مطلع شبابه، تقليدا للشاعر عبد الرحمن الأبنودي، الذي كان على معرفةٍ به بسبب صداقة والديْهما الأزهرييْن. وقد كتب أنه لو لم يفعل "لربّما كنتُ ما أزال جالسا ألعق ألفية ابن مالك مع الطلبة الغلابة في غرفةٍ مغلقةٍ لا تدخلها الشمس"، وأن "الأبنودي نفسُه كان يمكن أن يكون مأذون قرية أبنود لشؤون الزواج والخناقات الزوجية التي تنتهي عادة بالطلاق".
حدّثني عبدُه جبير عن ذلك "الهروب"، هناك في شقّته في شارع جريدة السياسة في السيدة زينب في القاهرة، ذات سهريةٍ في مساءٍ شتائي قبل 38 عاما، تسارَرْنا وحدنا ساعات، وهيّأتُ معه مقابلة نشرتُها في صحيفة يومية أردنية (توقّفت لاحقا). أعجبتْه قراءتي له "تحريك القلب" ومجموعة قصصية، وأنا الذي في الحادية والعشرين عاما (إلا شهورا)، وقادمٌ من الأردن. وإذ أتصفّح أرشيفي، أجد عبدُه ينتقد كتابة نجيب محفوط، لكنه أصدر لاحقا كتابا رائقا عنه، ضمّنه محاوراتٍ بينهما. وأجده قال لي إنه كتب بعض القصص القصيرة لمجرّد الرغبة في "المِِران"، وفي امتلاك خبرة في ممارسة هذه التجربة. حدّثني (خارج النشر) عن الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وسهراتهما عنده في الشقّة، البسيطة المتقشّفة، التي عرفتُ، من مقالةٍ قرأتها قبل أيام، أنه غادرها إلى أخرى قريبةٍ منها، بعد أن كانت مطرحا للقاءات أصدقاء بلا عدد، يكتُبون، ويتساجلون.
انقضت عقودٌ، ثم يفاجئني عبدُه جبير على شاشة تلفزيون العربي ضيفا في بيروت في برنامج عبد الكريم الشّعار وابنته رنين "أهل الطرب"، يتحدّث عن إمام ونجم، رأيتُه بدينا على غير ما أتذكّره، مُقتصدا في الكلام، بروحٍ أنيقة، فتذهب خواطري، بفرحٍ، إلى تلك السهرية القديمة، على غير ما ذهبْت إليها، بحزن، مع نبأ رحيل هذا الكاتب المحترم.